النافذة
كل شيء بدأ من هنا... من هذه الغرفة الصغيرة، ومن تلك النافذة التي بدت لي لوهلة وكأنها البوابة الوحيدة التي لا تزال تربطني بالعالم الخارجي.
جلستُ على طرف سريري كأنني أمارس طقسًا يوميًا لا يتغير، ممسكةً بدفتر مذكراتي القديم، الذي أصبحت صفحاته مليئة بالكلمات المتكررة، والتنهدات، وبما تبقى من محاولات للبوح لم يعد لها مستمع.
القلم الذي في يدي بدا مرهقًا مثلي، وكأنّه تعب من تكرار ذات الجُمل، وذات الألم، وذات الحكاية التي لا تنتهي.
صمتٌ ثقيل يخيّم على المكان. لا موسيقى، لا صوت بشري، لا حركة تُذكر سوى تكتكة الساعة المعلّقة على الحائط، والتي صارت تزعجني بانتظامها، كأنها تسخر من فوضى قلبي. شعرت وكأنّ الزمن يتحرك حولي، بينما أنا عالقة في نقطة لا تنتمي إلى الماضي، ولا تقوى على دخول المستقبل.
فتحت صفحة جديدة وكتبت:
"اليوم ليس مختلفًا عمّا سبقه. كل الأيام باتت تشبه بعضها، وكأن الحياة قد فقدت لونها وطعمها، وكأنني فقدت نفسي."
رفعت رأسي ونظرت إلى النافذة التي تطل على الحديقة الخلفية للمنزل. نصفها مغطّى بستارة رمادية باهتة، والنصف الآخر يُدخل ضوءًا خافتًا لا يبعث على الحياة. شعرت أنّ الشمس لم تعد تجرؤ على اقتحام عالمي، أو لعلّها سئمت من المحاولة، كما سئمتُ أنا من كل شيء.
همستُ، كمن يُخاطب صديقًا غاب منذ زمن:
"أيتها الشمس... أما زلتِ تطرقين نافذتي كل صباح؟ أما تعلمين أنني لم أعد أفتح لكِ؟"
ثم ابتسمت بسخريةٍ مريرة، وأنا أتمتم: "أو لعلّك أنتِ الأخرى بحاجة إلى نافذة."
أنا غدير، الفتاة التي كانت تضحك من قلبها، وتسير في الشوارع بحيوية الطفلة وجرأة الشابة الحالمة. كنتُ مليئة بالطاقة، بالأمل، بالرغبة في تغيير العالم... أما اليوم، فأنا شخص مختلف تمامًا. شخص بالكاد يعرف نفسه.
لم يحدث أمرٌ جلل، لم أقع ضحية حادث مأساوي، ولم أتعرض لخيانة درامية. كل ما في الأمر أن شيئًا ما داخلي قد انطفأ... تدريجيًا، بصمت، دون أن ألاحظ. ثم فجأة، وجدتني أختنق في هذا الصمت، في هذا الفراغ، في هذه الغرفة.
أغلقت الدفتر للحظة، وأخذت نفسًا عميقًا، وكأنني أحاول سحب الحياة إلى رئتي من جديد. ثم عدت إليه، وكتبت بخطٍّ أبطأ:
"هذه ليست مذكرات فتاة تعيسة، بل هي محاولة لفهم الذات، وربما محاولة أخيرة للعودة إليها."
نظرتُ حولي... نفس الجدران، نفس السرير، نفس الكتب المكدّسة على الطاولة، نفس كوب القهوة الذي لم أتناوله، ونفس النافذة التي كنت أرفض الاقتراب منها. شيء ما في داخلي كان يخبرني أنني إذا فتحت تلك النافذة، سأفتح معها شيئًا أعمق... شيئًا ربما لم أعد مستعدة لمواجهته.
ولكن... ماذا لو حاولت؟ ماذا لو لم يكن ما أعيشه هو النهاية، بل مجرّد فصل؟
ماذا لو كتبت قصتي، كما هي، بصراحتها، بضعفها، بقوتها الخفية، بأخطائها وبوميض الأمل الذي يرفض أن ينطفئ تمامًا؟
ولماذا لا أشاركها؟ ليس لأني أظنّها مميزة، بل لأني أعلم أن هناك فتاة أخرى، في مكان ما، تمرّ بما أمرّ به، وتحتاج إلى أن تشعر بأنها ليست وحدها.
نعم، سأكتب. لن أخفي شيئًا، لن أجمّل شيئًا، ولن أعتذر عن شعوري. سأروي حكايتي من البداية. سأكتب عن غدير الطفلة التي كانت تملأ المكان ضجيجًا وضحكًا، وعن غدير الشابة التي وقفت أمام الحياة وواجهتها بشجاعة، ثم عن غدير التي خذلتها الحياة، أو لعلها خذلت نفسها، ولكنها لم تنتهِ بعد.
سأكتب هذه الرواية وسأسميها "النافذة"، ليس فقط لأن الأحداث تبدأ من هذه الزاوية المهملة في غرفتي، بل لأنها تمثّل شيئًا أكبر: الأمل. ذلك الشعاع الصغير الذي يتسلل رغم كل شيء، رغم التعب، رغم العتمة، رغم الإنكار.
إنني لا أعدكِ، أيتها القارئة، بنهاية سعيدة، ولكنني أعدكِ برحلة صادقة. رحلة قد تشبه رحلتك، وقد تعينك على إيجاد نافذتك الخاصة.
أغلقت الدفتر، ونهضتُ بخطى بطيئة نحو النافذة. وضعت يدي على الزجاج البارد، وشعرت برعشةٍ خفيفة تسري في جسدي.
أغمضتُ عينيّ، وقلت في سرّي:
"ربما لو فتحتها الآن... سيتغير شيء. ولو كان صغيرًا."
ثم... وضعت يدي على المقبض.
--
Comments
NIMA ᯓ★
الصراحة كلش حلوة
اسلوبك في الكتابة عجبني كثيييير ˚₊‧꒰ა ☆ ໒꒱ ‧₊˚
2025-05-22
0