أخرجت دفاتري القديمة، تلك التي كنت أخبئها تحت سريري، وكأنّها أسرار دولة لا يجوز كشفها. فتحت أول صفحة، ورأيت خطّي المرتبك، وكلماتي المبعثرة، ورسائل لم تكتمل…
كان هناك شيء مختلف في هذه الدفاتر، شيء جعلني أبتسم رغمًا عني.
كأنّي كنت أكتبها لأُنقذ نفسي، لا لأُخبر أحدًا.
في الصفحة الثالثة، وجدت ورقة صغيرة، ليست من ضمن الدفتر، بل بدت وكأنّها وُضعت هناك بالخطأ… أو عن قصد.
كتبتُها؟ لا أذكر.
لكن الخط ليس غريبًا عني، كان يشبه خطي حين أكون حزينة.
كانت الورقة تقول:
"إذا شعرتِ أن العالم لا يراكِ، فهذا لا يعني أنكِ غير موجودة. بل يعني أنكِ تنتمين لعالم آخر، أعمق، أصفى."
قرأت الجملة أكثر من مرة.
من كتبها؟
هل كنتُ أنا؟
أم أحدًا ما؟
ولِمَ لا أذكرها؟
بدأتُ أشعر بشيء يتحرك داخلي.
رغبة لم أعرفها من قبل…
أن أخرج.
أن أذهب لمكان يشبهني.
أن أبحث عن إجابة.
ارتديتُ معطفي الرمادي، وخرجت للمرة الأولى منذ أسابيع، دون هدف واضح، فقط أريد أن أرى شيئًا غير سقف غرفتي.
سرتُ في الشارع، الهواء كان بارداً، لكنه لم يزعجني.
مشيت ببطء، أراقب وجوه الناس، خطواتهم السريعة، صمتهم المليء بالضجيج.
ثم، بدون تخطيط، وجدت نفسي أمام مقهى صغير.
نفس المقهى الذي كنت أزوره قبل سنوات، حين كنت أكتب قصائدي الأولى على ورق المناديل.
دخلت.
الرائحة… نفس الرائحة.
قهوة سوداء ممزوجة ببقايا موسيقى قديمة.
جلستُ في الزاوية ذاتها، وطلبت نفس القهوة.
وبينما كنت أخرج دفتري من الحقيبة، سقط شيء غريب من داخلها…
رسالة.
مطوية بعناية، ومربوطة بخيط رفيع أحمر.
لم تكن الرسالة لي، ولا مكتوبة بخطّي.
لكنني شعرت أنها نُسيت في حقيبتي عمدًا.
فتحتها، وقرأت بصوت داخلي خافت:
"إلى من تقرأ هذه الكلمات… أنتِ لستِ وحدك. هناك شخص ما، في هذا العالم، يبحث عنك أيضًا. ربما يجلس الآن في مقهى قديم، يقرأ كتابًا عن الحياة، وينتظر أن تأتي."
أغمضت عيني، وأحسست بقشعريرة غريبة.
هل هذه الرسالة حقيقية؟
هل أنا المقصودة؟
هل هذا نوع من المصادفات الغريبة التي يرسلها القدر حين نكون على حافة الانطفاء؟
رفعت نظري بهدوء، وبدأت أراقب الزبائن في المقهى…
وفي الركن المقابل، رأيته.
شابٌ يحدّق في كتاب مفتوح، ويبتسم كأنّه يعرفني.
بقيتُ أراقبه من بعيد…
الشاب الذي جلس بقرب طاولتي، دون أن ينطق بكلمة.
لم يكن في ملامحه شيءٌ ملفت بشكلٍ استثنائي، لكنّه بدا مألوفًا، وكأنّني رأيته في حلم قديم، أو قرأته في صفحة من كتاب نسيت عنوانه.
حاولت التركيز في الكتابة، لكن كل حرف كنت أكتبه، كان يبدو وكأنه يراقبني.
كان يحمل كتابًا عنوانه "الضوء في الداخل"، وكأنّه سخرية من عالمي المنطفئ.
أردت أن أنظر إليه مجددًا، لكنني تردّدت…
لم أكن مستعدة بعد للاحتكاك بالعالم الحقيقي.
لكنّه ابتسم مرة أخرى.
ابتسامة لم تكن عابرة، بل صادقة، غير متكلفة، فيها شيء من الطمأنينة.
تنفّست بعمق، وأخذت رشفة من القهوة التي بردت أمامي دون أن أشعر.
ثم حدث شيء غريب…
هو من بادر بالكلام.
قال:
– "هل تكتبين مذكراتك؟"
تجمّدت يدي، شعرت بقلبي يتوقف لوهلة.
لم أتوقع أن يتحدث…
ولا أن يصيب الهدف من أول سؤال.
نظرت إليه، ولم أُجب بسرعة.
ثم همست:
– "نوعًا ما…"
ضحك بخفّة وقال:
– "لا تقلقي، أنا أكتب أيضًا… ولستُ جاسوسًا."
ثم أشار إلى الكتاب الذي بين يديه وأضاف:
– "كنت أبحث عن نهاية مناسبة لهذه الرواية. لكن يبدو أنّني وجدت بداية بدلًا منها."
صمتنا.
كانت جملته بسيطة، لكنها أصابت شيئًا في داخلي.
بدأت أشعر أن هذا اللقاء لم يكن عاديًا.
هل من الممكن أن يكون هذا الشخص هو صاحب الرسالة القديمة؟
هل جاءت الرسالة لتدفعني إلى المقهى، وأتى هو ليمدّ يده نحو الضوء من جديد؟
أم أنّها مجرد مصادفة، جميلة، نادرة، عابرة؟
لم أطرح أي سؤال، ولم أطلب تفسيرًا.
بل اكتفيت بالاستماع إلى صوته، وكأنّه صوت من الماضي… من عالمي القديم الذي كنتُ فيه أضحك بملء قلبي، وأكتب بلا خوف.
وفي تلك اللحظة، شعرت أنني خرجت من النافذة… لا جسديًا، بل روحيًا.
خرجتُ من وحدتي، من أسئلتي القديمة، من صمتي الطويل.
قبل أن أغادر، قال لي:
– "أنا آتي إلى هذا المقهى كل أسبوع… إن رغبتِ بكتابة النهاية معي، أنا هنا."
لم أُجب، ولم أعد ابتسامته…
لكني شعرت بشيء جديد يولد داخلي، شيء يُشبه الأمل.
ذلك الأمل الذي لم أره في المرآة منذ شهور.
رجعت إلى غرفتي، أغلقت الباب، لكني لم أُغلق النافذة.
للمرة الأولى، تركتها مفتوحة، وتركت قلبي يتنفس هواء العالم.
عدتُ إلى غرفتي وأنا أحتضن ذلك الكتاب بين يديّ كأنه شيء ثمين أُهدي إليّ بعد طول حرمان. لم أكن أدري ما الذي يجب أن أشعر به؛ شيءٌ غريبٌ يختلط بين الهدوء والذهول، كأنّ الحياة بدأت تهمس لي بلغةٍ جديدة لا يفهمها سواي.
أغلقتُ بابي، وركنتُ ظهري إليه، ثم أغمضتُ عيني.
ما حدث ليس عاديًا. ليس حلمًا، وليس صدفةً عابرة.
كأنّ العالم الذي هجَرني، قرّر فجأة أن يطرق بابي، ويمنحني شيئًا من النور.
جلست على الكرسي الخشبي المهترئ، وضعت الكتاب أمامي، وفتحت الصفحة الأولى.
ورقة بيضاء. تنتظر.
كأنها مرآةٌ لا تعكس وجهي، بل أعماقي.
أمسكت القلم، وبدأت أكتب…
لكنني لم أكتب عن الألم، ولا عن الوحدة، بل عن ذلك المقهى… عن الرائحة القديمة، عن عيني ذلك الشاب الغريب، عن تلك الرسالة التي أعادتني إلى السطح بعد أن كدت أغرق.
كتبت كأنني أتنفس.
كأنني أزيح التراب عن قلبي.
كأنّ الكلمات كانت محبوسة داخلي منذ قرون، تنتظر أن أجرؤ.
وكلما كتبت سطرًا، شعرت بشيءٍ ما يذوب في داخلي… جليدٌ كان يقيّدني، خوفٌ كان يمتصّ ملامحي، وكل لحظة أدوّنها كانت بمثابة خطوة صغيرة نحو الشفاء.
مرت ساعتان دون أن أشعر.
عندما رفعت رأسي، وجدت أن الشمس بدأت تنسحب ببطء من نافذتي، تاركة خلفها ظلًا برتقاليًّا دافئًا غمر وجهي.
نظرت إلى وجهي في المرآة…
أهو وجهي فعلًا؟
بدا لي مختلفًا، ليس لأنه تغيّر، بل لأنّني أنا من تغيّرت.
كان هناك شيء جديد في نظرتي… كأنّ غدير التي أعرفها، كانت نائمة في مكانٍ عميق، وصوتها بدأ يعلو.
نهضت وسحبت الستائر، وفتحت النافذة.
كان الهواء نقيًّا، عليلًا، ومعه نسيم لطيف حمل ورقة صغيرة كانت على الحافة، لم أنتبه لها من قبل.
التقطتها. كانت خفيفة، صفراء قليلاً من أطراف
9تم تحديث
Comments