البارت ٥

كان هذا الصباح مختلفًا، رغم أنه لا يحمل جديدًا في تفاصيله.

رسالة بسيطة منه كعادته: "صباح الخير، هل نكمل حديث الأمس؟"

ابتسمت… لا لشيء سوى أن صوته الداخلي في تلك الكلمات يعيد ترتيب مزاجي.

كتبنا كثيرًا، ضحكنا أكثر، ولا شيء كان ينذر أن شيئًا سيتغير.

لكن شيئًا داخلي كان مضطربًا، كأنني أستشعر ظلاً يزحف خلف الحروف.

كنت أبحث عن لحظة صراحة… عن مساحة صغيرة أقول له فيها ما يضايقني،

ذلك الغياب المفاجئ البارحة… تلك النبرة الغريبة حين عاد.

سألته برفق:

"أيمكنني أن أسألك شيئًا ولا تهرب؟"

قال:

"ها قد بدأتِ... لا تصنعي من لا شيء مشكلة، نحن بخير، صحيح؟"

لم أكن أريده أن يُخفي، أو يُطمئنني بجملة جاهزة، أردت أن يفهم… أن ينظر لما خلف الكلمات.

قلت بهدوءٍ حاولت أن أُخفي فيه وجعي:

"ليس كل شيء يمكننا إسداله بستار (نحن بخير)."

ردّ سريعًا:

"غدير، أنا متعب، ولا أملك طاقة لكثرة الكلام. أحيانًا نبالغ في تفسير الأمور."

صمتي كان أبلغ من كل إجابة…

لم أكن أريد المبالغة، فقط أردت أن أعرف، أن أكون في قلب الصورة، لا على هامشها.

وبعد لحظات طويلة، قال:

"سأكون صريحًا، إن كنتِ تصرين… بالأمس التقيتُ بإيما، حبيبتي السابقة."

توقفت أنفاسي.

لم أكن أتوقع أن يكون هذا سبب غيابه…

أحسست بأن كل الكلمات التي قالها لي فقدت معناها دفعة واحدة.

"كان لقاءً صدفة، لا شيء مهم، فقط حديث عابر."

هكذا كتب، لكنه لم يعلم أنني قرأت بين السطور كل التفاصيل التي لم يقلها.

إيما… الاسم وحده يكفي ليشعل فيّ نيرانًا لم أكن أعلم بوجودها.

كيف لقلبي أن يضيق بهذا الشكل، وأنا التي لم أعترف له يومًا بشيء؟

هل ابتسم لها كما يفعل معي؟

هل شعر بالحنين؟

هل نسي كل ما كان يكتبه لي حين كانت الشاشة تجمعنا ليلًا؟

لم أُجب.

أغلقت الهاتف ووضعت رأسي على وسادتي كأنني أحتمي بها من نفسي.

لكنه عاد وكتب:

"غدير، أرجوكِ لا تختفي. لم يكن الأمر يستحق كل هذا الانفعال."

كتبت له أخيرًا:

"ألم تسأل نفسك لماذا انفعلت؟

لأنني شعرت أنني لا شيء، رغم أنني أضحكك حين لا يضحكك أحد،

وأسمعك حين تصمت أمام الجميع،

وأقرأك كما لم يفعل أحد."

كان ردي مؤلمًا… لكنه حقيقي.

فهو لم يكن يعلم أنني كتبت له سطورًا كاملة في روايتي،

أنني حين أصف البطل الذي يتردد، فإنني أقصده.

وأنّ كل وصف لرجل يشبه ضوءًا في العتمة… كان عنه.

مرّ وقت طويل.

كتب بعدها:

"هي ماضٍ، وأنتِ واقعٌ يجعلني أبتسم في منتصف حزني.

فلا تكوني أنتِ أيضًا ظلًا ينطفئ."

بكيت… ليس لأني سامحته، بل لأنني أردت أن أصدّقه.

أن أتمسك به، رغم كل ما يُقلقني.

وفي داخلي، كنتُ أقول لنفسي:

"غدير، لا أحد يستحق أن تصبحي شبحًا بسببه…

لكن، إن كان هذا الشبح يجد راحته مع إيم، فلا بأس أن تبقي قليلًا."

 

"هل أنتِ هناك؟"

وصلت رسالته بعد صمتٍ طويل...

كأنّه كان يخشى أن يكون حضوره غير مرغوب فيه، أو أن كلماته سقطت من قلبي كما تسقط أوراق الخريف.

أجبتُ بعد تردد:

"أنا هنا… لكن لا أعرف إن كنتُ ما زلتُ أنا."

ردّ بسرعة مفاجئة:

"ما الذي يعنيه هذا؟"

ارتبكت…

أيعقل أن أقول له إنّ قلبي لم يعد كما كان؟

أنّني خفت من أن أكون شخصًا عاديًا في حياته، بينما هو لم يكن يومًا عاديًا في يومي؟

"لا شيء، مجرد أفكار زاحمة قلبي فجأة"، أرسلتها وأنا أبتلع غصّة.

ثم كتب:

"غدير، لا أحب هذه المسافات التي تخلقها الكلمات… كنت أظن أنّنا أصبحنا أقرب من ذلك."

كلماته أربكتني…

هل هذا اعتراف مبطن؟

أم مجرّد تهدئة لموجة الغضب التي شعر بها مني؟

سألته بجرأة خفيفة امتزجت بحذر داخلي:

"هل يعني لك قربي شيئًا؟"

توقعت أن يتجاهل السؤال، أو يغيّر الموضوع كعادته…

لكنه كتب:

"يعني لي أكثر مما أُظهر، وأكثر مما تتوقعين.

لكنني رجل لا يعرف كيف يقول الكلمات في وقتها، فتخرج دائمًا متأخرة."

شعرت بحرارةٍ غريبة في أطراف أصابعي…

ذلك النوع من التوتر الذي لا يُشبه الخوف، بل يُشبه الرغبة في الهروب من القلب إلى القلب.

كتبت مازحة:

"يعني لو قلتُ لك الآن إنّني أُفكر بإرسال قلب أحمر لك… لن تهرب؟"

توقّفت قليلًا بعد إرسالها…

أغلقت هاتفي لوهلة كأنني ألقيت قنبلة صغيرة.

عاد الرد سريعًا:

"سأهرب، لكن ليس منك… بل من نفسي التي ستبتسم كالأبله حين ترى قلبك."

ضحكت… ضحكت بصدق، كأنّ قلبي تحرّر لحظة.

أرسلت له بعدها:

"قل لي… هل تظنّ أنّ روايتي تفضحني؟"

أجاب:

"أظنّ أنّ البطلة تشبهك كثيرًا… خاصة حين تصف الرجل الذي لا يحب الحياة، لكنه يحب عينيها دون أن يبوح."

سكتُّ…

لقد فهم.

قرأني جيدًا.

عرف أنّني كنت أكتب له… كلمةً كلمة، وصفًا وصفًا.

سألني بعدها:

"هل كنتِ تقصدينني فعلًا؟"

رددتُ بعد صمتٍ طويل:

"ربما… وربما كنتُ أكتب عن رجل كنتُ أتمنى أن يحب الحياة من أجلي."

جاء جوابه خافتًا، لكنه اخترقني:

"وأنا… كنتُ أكتب حزني في صمتي، لكنني لا أعرف كيف أكتبه بلغة تُشبهك."

هنا… شعرتُ أنّ شيئًا بيننا تغيّر، ولو قليلًا.

لم تكن الكلمات كثيرة، لكنها كانت كافية لتفتح بابًا صغيرًا في قلبي.

تبادلنا بعدها حديثًا خفيفًا…

عن فيلم شاهدناه، عن نكهة الآيس كريم التي نحبها، عن أسماء غريبة نُطلقها على مشاعر لا تُقال.

ضحكنا.

وسألته:

"هل تظنّ أنّنا غريبان؟ نضحك ونحن نحمل ما يكفي من الحزن لكتابة ديوان كامل."

قال:

"ربما نحن أغرب ما حدث لبعضنا… وربما أجمل."

ثم كتب:

"غدير، لا تكوني غامضة دومًا. دعيني أراكِ كما أنتِ، لا كما تكتبين."

أجبته:

"سأحاول، فقط لا تخف منِّي إن رأيتَ في قلبي ضوءًا يبحث عن شقٍ ليدخل حياتك."

لم يرد بعدها بشيء…

لكنه أرسل ملصقًا بسيطًا: وجه يبتسم بخجل، وقلب صغير خلفه.

أغلقت الهاتف، وقلبي يضجّ بما لا يُقال…

كأنني بدأت أحبُّه من حيث لا يُفترض أن أبدأ، وكأنّه بدأ يراني أخيرًا، كما لم يرني أحد من قبل.

-

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon