NovelToon NovelToon

النافذة

البارت الاول

كل شيء بدأ من هنا... من هذه الغرفة الصغيرة، ومن تلك النافذة التي بدت لي لوهلة وكأنها البوابة الوحيدة التي لا تزال تربطني بالعالم الخارجي.

جلستُ على طرف سريري كأنني أمارس طقسًا يوميًا لا يتغير، ممسكةً بدفتر مذكراتي القديم، الذي أصبحت صفحاته مليئة بالكلمات المتكررة، والتنهدات، وبما تبقى من محاولات للبوح لم يعد لها مستمع.

القلم الذي في يدي بدا مرهقًا مثلي، وكأنّه تعب من تكرار ذات الجُمل، وذات الألم، وذات الحكاية التي لا تنتهي.

صمتٌ ثقيل يخيّم على المكان. لا موسيقى، لا صوت بشري، لا حركة تُذكر سوى تكتكة الساعة المعلّقة على الحائط، والتي صارت تزعجني بانتظامها، كأنها تسخر من فوضى قلبي. شعرت وكأنّ الزمن يتحرك حولي، بينما أنا عالقة في نقطة لا تنتمي إلى الماضي، ولا تقوى على دخول المستقبل.

فتحت صفحة جديدة وكتبت:

"اليوم ليس مختلفًا عمّا سبقه. كل الأيام باتت تشبه بعضها، وكأن الحياة قد فقدت لونها وطعمها، وكأنني فقدت نفسي."

رفعت رأسي ونظرت إلى النافذة التي تطل على الحديقة الخلفية للمنزل. نصفها مغطّى بستارة رمادية باهتة، والنصف الآخر يُدخل ضوءًا خافتًا لا يبعث على الحياة. شعرت أنّ الشمس لم تعد تجرؤ على اقتحام عالمي، أو لعلّها سئمت من المحاولة، كما سئمتُ أنا من كل شيء.

همستُ، كمن يُخاطب صديقًا غاب منذ زمن:

"أيتها الشمس... أما زلتِ تطرقين نافذتي كل صباح؟ أما تعلمين أنني لم أعد أفتح لكِ؟"

ثم ابتسمت بسخريةٍ مريرة، وأنا أتمتم: "أو لعلّك أنتِ الأخرى بحاجة إلى نافذة."

أنا غدير، الفتاة التي كانت تضحك من قلبها، وتسير في الشوارع بحيوية الطفلة وجرأة الشابة الحالمة. كنتُ مليئة بالطاقة، بالأمل، بالرغبة في تغيير العالم... أما اليوم، فأنا شخص مختلف تمامًا. شخص بالكاد يعرف نفسه.

لم يحدث أمرٌ جلل، لم أقع ضحية حادث مأساوي، ولم أتعرض لخيانة درامية. كل ما في الأمر أن شيئًا ما داخلي قد انطفأ... تدريجيًا، بصمت، دون أن ألاحظ. ثم فجأة، وجدتني أختنق في هذا الصمت، في هذا الفراغ، في هذه الغرفة.

أغلقت الدفتر للحظة، وأخذت نفسًا عميقًا، وكأنني أحاول سحب الحياة إلى رئتي من جديد. ثم عدت إليه، وكتبت بخطٍّ أبطأ:

"هذه ليست مذكرات فتاة تعيسة، بل هي محاولة لفهم الذات، وربما محاولة أخيرة للعودة إليها."

نظرتُ حولي... نفس الجدران، نفس السرير، نفس الكتب المكدّسة على الطاولة، نفس كوب القهوة الذي لم أتناوله، ونفس النافذة التي كنت أرفض الاقتراب منها. شيء ما في داخلي كان يخبرني أنني إذا فتحت تلك النافذة، سأفتح معها شيئًا أعمق... شيئًا ربما لم أعد مستعدة لمواجهته.

ولكن... ماذا لو حاولت؟ ماذا لو لم يكن ما أعيشه هو النهاية، بل مجرّد فصل؟

ماذا لو كتبت قصتي، كما هي، بصراحتها، بضعفها، بقوتها الخفية، بأخطائها وبوميض الأمل الذي يرفض أن ينطفئ تمامًا؟

ولماذا لا أشاركها؟ ليس لأني أظنّها مميزة، بل لأني أعلم أن هناك فتاة أخرى، في مكان ما، تمرّ بما أمرّ به، وتحتاج إلى أن تشعر بأنها ليست وحدها.

نعم، سأكتب. لن أخفي شيئًا، لن أجمّل شيئًا، ولن أعتذر عن شعوري. سأروي حكايتي من البداية. سأكتب عن غدير الطفلة التي كانت تملأ المكان ضجيجًا وضحكًا، وعن غدير الشابة التي وقفت أمام الحياة وواجهتها بشجاعة، ثم عن غدير التي خذلتها الحياة، أو لعلها خذلت نفسها، ولكنها لم تنتهِ بعد.

سأكتب هذه الرواية وسأسميها "النافذة"، ليس فقط لأن الأحداث تبدأ من هذه الزاوية المهملة في غرفتي، بل لأنها تمثّل شيئًا أكبر: الأمل. ذلك الشعاع الصغير الذي يتسلل رغم كل شيء، رغم التعب، رغم العتمة، رغم الإنكار.

إنني لا أعدكِ، أيتها القارئة، بنهاية سعيدة، ولكنني أعدكِ برحلة صادقة. رحلة قد تشبه رحلتك، وقد تعينك على إيجاد نافذتك الخاصة.

أغلقت الدفتر، ونهضتُ بخطى بطيئة نحو النافذة. وضعت يدي على الزجاج البارد، وشعرت برعشةٍ خفيفة تسري في جسدي.

أغمضتُ عينيّ، وقلت في سرّي:

"ربما لو فتحتها الآن... سيتغير شيء. ولو كان صغيرًا."

ثم... وضعت يدي على المقبض.

--

بارت ٢

لا أدري إن كان ما أفعله الآن يُعدّ شجاعة أم مجرّد محاولة بائسة للهروب من الصمت... لكنني، ولأول مرة منذ مدة طويلة، أشعر برغبة صادقة في أن أكتب، لا لأنني أملك شيئًا مهمًا لأقوله، بل لأنني أخيرًا سمعت صوتي الداخلي بوضوح، ذاك الصوت الخافت الذي ظلّ يهمس لي طوال الأيام الماضية: "أنتِ لا زلتِ هنا، لا زلتِ حية، فقط استمعي لي."

أنا غدير، وهذه ليست مجرد مذكرات فتاة تشعر بالوحدة، بل محاولة لفهم كل ما حدث دون أن ألاحظ حدوثه.

كم من الأشياء انطفأت داخلي بهدوء؟ كم من الأحلام تآكلت دون أن أقول لها وداعًا؟

أعرف أنني تغيّرت، وأعرف أكثر أنني لست كما كنت، لكنّي لا أملك إجابة واحدة للسؤال الأهم: لماذا؟

في داخلي فتاة كانت تضحك لأتفه الأسباب، وتبكي بحرارة، وتحب التفاصيل الصغيرة، وتعيش الأيام كأنها أغنية مبهجة. أين ذهبت تلك الفتاة؟ وهل أنا هي، أم أصبحت مجرد ظلّ لها؟

كل ما أعرفه أنني بتّ أستيقظ كل صباح دون شغف، أتأمل سقف غرفتي لعدة دقائق قبل أن أقنع نفسي بالنهوض. لا مهام تنتظرني، ولا أحد يفتقدني إن تأخرت عن روتيني.

لكن هناك شيء لا يزال يربطني بالحياة، شيء صغير جدًا، لا يُرى، لكنه حاضر... ربما هو الأمل، وربما الكتابة، وربما شيء لم أكتشفه بعد.

أحيانًا أبتسم بلا سبب وأنا أرى كوب الشاي يتصاعد منه البخار في هدوء، أو حين أرى وردة مجففة داخل صفحات كتاب قديم كنت أقرؤه في لحظة من لحظات سعادتي الماضية.

أنا لست حزينة تمامًا، ولست سعيدة أيضًا... أنا فقط في المنتصف، وأحاول أن أكتشف نفسي من جديد.

أجلس لساعات طويلة بجانب النافذة. هذه النافذة أصبحت صديقتي. أراقب من خلالها العالم وكأني لست جزءًا منه، أراه يمضي وأنا ثابتة.

لكني مؤخرًا بدأت أطرح على نفسي سؤالاً جديدًا: ماذا لو لم أعد أكتفي بالمراقبة؟ ماذا لو حاولت العودة للحياة قليلًا؟ ليس بالضرورة أن أقفز فجأة، ربما فقط أفتح النافذة أكثر، أتنفس بعمق، أمدّ يدي للحياة على استحياء.

أنا غدير، وأكتب لأني أؤمن أن الكلمات قادرة على جمع شظايا الروح المبعثرة.

أكتب لأني تعبت من التظاهر بالقوة، ومن الابتسام في وجه المرآة وأنا أعلم أن في داخلي صرخة مكتومة.

أكتب لأنني أستحق أن أُفهم، حتى لو كان الوحيد الذي يفهمني هو أنا.

 

كثيرًا ما أسأل نفسي: منذ متى وأنا أشعر بهذا الثقل في صدري؟

ليس وجعًا حادًا، بل شيء يشبه الغيمة، تعلّق في داخلي منذ زمن، لا تمطر، ولا ترحل.

ربما هي تراكمات أيامٍ مرّت دون أن أشتكي، دون أن أتحدث، دون أن أبوح لنفسي حتى بما أزعجني.

لطالما كنت الطفلة التي لا تُحب أن تُثقل على أحد، التي تبتلع حزنها كي لا تُزعج، والتي تضع على وجهها ابتسامة كي لا تُقلق.

كنت أظن أنّ هذه قوة... أن أكون "الفتاة القوية"، تلك التي لا تنهار، ولا تحتاج، ولا تبكي أمام أحد.

لكني أدركت متأخرة أن القوة الحقيقية ليست في كتمان الألم، بل في امتلاك الشجاعة للاعتراف به.

أصبحت أفتقد حتى حزني القديم، ذاك الحزن البسيط الذي كنت أكتب عنه بأسلوب شاعري، وأجد فيه نوعًا من الجمال.

أما الآن، فحزني بلا صوت، بلا شكل، كأنه يلبس ثوب الصمت، يتجوّل داخلي متى شاء، ويجلس في الزاوية كما لو كان جزءًا مني لا يمكن فصله.

كلما فتحت دفاتري القديمة، أضحك وأبكي في آنٍ معًا...

كنت أكتب بفرح، أزيّن الصفحات برسمات صغيرة، أكتب عناوين براقة مثل: "يوم ممتع جدًا"، "ضحكت كثيرًا"، "أفضل لحظة في حياتي"...

واليوم، كل عنوان هو مجرد تاريخ فوق صفحة بيضاء، أو جملة غامضة لا تفهمها سوى فتاة كانت تصرخ من الداخل.

لكني رغم كل هذا، لا أكرهني.

أحب هذه الغدير الصامتة، المتأملة، التي بدأت ترى العالم من زاوية مختلفة.

ربما لم أعد تلك الفتاة الصاخبة، لكنّي أصبحت أكثر وعيًا، أكثر صدقًا مع نفسي، وأكثر لطفًا.

أنا الآن أتعلم كيف أكون لي، كيف أعتني بي، كيف أقول لنفسي: "لا بأس، أنت بخير حتى وإن شعرت بالعكس."

--

في بعض الليالي، حين يُخيّم السكون على غرفتي، أستلقي على سريري وأتحدث مع نفسي بصوتٍ داخلي:

"غدير، ماذا حدث؟ أين تلك النار التي كانت في عينيك؟ لماذا أصبحتِ تخافين من الضوء؟"

ثم أضحك، أحيانًا بسخرية، وأحيانًا بلطف، وأجيب: "لم أنطفئ، فقط تعبت. وأحتاج أن أستريح قليلاً."

وهذا في حدّ ذاته، إنجاز. أن أسمح لنفسي بالتعب، أن أتقبل ضعفي دون جلد.

أعلم أن هناك الكثير من الفتيات مثلي، يختبئن خلف واجهات القوة، ويمشين في الحياة وقلوبهن ثقيلة،

لكنّني أكتب اليوم لأقول لكل فتاة مثلي: أنتِ لستِ وحدكِ، وما تمرّين به حقيقي.

لا تخجلي من حزنك، ولا تعتذري عن مشاعرك، فكل شيء فيكِ يستحق الفهم، لا الحكم.

أشعر أحيانًا أن قلبي أصبح أكثر رهافة.

أبكي من مشهد بسيط في فيلم، أو حين أسمع جملة تشبهني، أو أرى امرأة مسنّة تمشي ببطء في الشارع...

ربما لأنني أصبحت أرى ما وراء الأشياء، لم أعد أمرّ مرورًا عابرًا، بل أتوقّف، أتأمل، وأفهم.

لم يعد هدفي في الحياة أن أكون "سعيدة طوال الوقت"، بل أن أكون حقيقية، أن أكون حاضرة في لحظاتي، حتى في الحزن.

أن أشعر بعمق، وأحب نفسي برفق، وأصافح ضعفي بلا خجل.

 

في إحدى الأمسيات، وبينما كنت أجلس أمام نافذتي المعتادة، رأيت فتاة صغيرة تقف مع والدتها، تمسك ببالون أحمر وتضحك بصوتٍ عالٍ دون أن تهتم لنظرات الناس.

ضحكتها كانت نقية، صافية، وكأنّها تخرج من قلبٍ لا يعرف الخوف، ولا يهاب الحياة.

نظرتُ إليها طويلًا، وكأنني أبحث عني فيها...

هل كنتُ أضحك هكذا يومًا؟ وهل كنتُ أحمل تلك العفوية في خطواتي؟

أعتقد أن كلّ إنسان يولد وهو نقيّ تمامًا، شفاف كالماء، ثم تلوثه التجارب شيئًا فشيئًا.

وليس المقصود هنا بالنجاة أن نعود كما كنا، بل أن نتعلّم كيف نكون نقيّين رغم كلّ ما مررنا به.

أن نكون نحن، بكلّ ما فينا من ندوب، وتشققات، وتفاصيل صغيرة جعلتنا نضجّ في العمق.

لم أعد ألوم نفسي على تغيّري، بل صرت أحتضن هذا التغير، أحاوره، أحاول أن أفهمه، وأسأله: "إلى أين تأخذني؟"

بدأت أؤمن أن لا شيء يحدث صدفة، وأن هذه المرحلة الصعبة لم تكن عقوبة، بل درسًا... فرصة لأتعلّم حبّ الذات الحقيقي، ذاك الحبّ الذي لا يشترط أن أكون دائمًا مشرقة كي أستحقه.

صرت أستيقظ وأصنع لنفسي فنجان قهوة كما لو أنّه هدية.

أختار موسيقى هادئة، أفتح الستائر، وأقول لنفسي:

"غدير، اليوم ليس عليكِ أن تكوني خارقة... فقط كوني هنا، وكفى."

أصبحت أقدّر التفاصيل الصغيرة:

الرسائل القصيرة التي تصلني من صديقة قديمة، صوت العصافير عند الفجر، طعم الشوكولاتة الذي يعيد لي ذكريات الطفولة، وأحاديث أمي العفوية في المساء.

كلّ هذا لم أكن أراه من قبل، أو ربما كنت أراه دون أن أشعر بقيمته.

لكن الآن، بعدما اختبرت الوحدة، أدركت أن الحياة ليست في الأحداث الكبيرة، بل في التفاصيل التي تمرّ بنا دون أن ننتبه لها.

أحيانًا، أكتب لنفسي رسائل... أضعها في صندوق صغير داخل درجي،

رسائل أقول فيها أشياء لا أجرؤ على قولها بصوت عالٍ:

"أنا فخورة بكِ لأنكِ ما زلتِ تقاومين"،

"أنتِ لم تفشلي، فقط تعبتِ قليلاً"،

"الضوء سيعود، فقط اصبري."

هذه الرسائل تُشبهني، تُشبه قلبي حين يُقرّر أن يكون طيّبًا حتى في أقسى الظروف.

لا أكتبها لأنني بخير، بل أكتبها لأنني أريد أن أكون بخير.

 

ورغم أنني لا أزال داخل غرفتي، ولا زالت نافذتي هي عالمي الصغير،

إلا أنني أشعر، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أنني أفتح النافذة لا لأراقب الحياة فقط، بل لأعود إليها... ولو بخطوة واحدة في اليوم.

الفتاة التي كنتُها لم تختفِ، هي فقط اختبأت داخل زوايا قلبي تنتظر مني أن أناديها.

وها أنا أناديها الآن، بلطف، بلا استعجال، وأقول لها:

"عدي إليّ متى ما شعرتِ بالأمان، أنا لن أترككِ بعد اليوم."

 

بارت ٣

أخرجت دفاتري القديمة، تلك التي كنت أخبئها تحت سريري، وكأنّها أسرار دولة لا يجوز كشفها. فتحت أول صفحة، ورأيت خطّي المرتبك، وكلماتي المبعثرة، ورسائل لم تكتمل…

كان هناك شيء مختلف في هذه الدفاتر، شيء جعلني أبتسم رغمًا عني.

كأنّي كنت أكتبها لأُنقذ نفسي، لا لأُخبر أحدًا.

في الصفحة الثالثة، وجدت ورقة صغيرة، ليست من ضمن الدفتر، بل بدت وكأنّها وُضعت هناك بالخطأ… أو عن قصد.

كتبتُها؟ لا أذكر.

لكن الخط ليس غريبًا عني، كان يشبه خطي حين أكون حزينة.

كانت الورقة تقول:

"إذا شعرتِ أن العالم لا يراكِ، فهذا لا يعني أنكِ غير موجودة. بل يعني أنكِ تنتمين لعالم آخر، أعمق، أصفى."

قرأت الجملة أكثر من مرة.

من كتبها؟

هل كنتُ أنا؟

أم أحدًا ما؟

ولِمَ لا أذكرها؟

بدأتُ أشعر بشيء يتحرك داخلي.

رغبة لم أعرفها من قبل…

أن أخرج.

أن أذهب لمكان يشبهني.

أن أبحث عن إجابة.

ارتديتُ معطفي الرمادي، وخرجت للمرة الأولى منذ أسابيع، دون هدف واضح، فقط أريد أن أرى شيئًا غير سقف غرفتي.

سرتُ في الشارع، الهواء كان بارداً، لكنه لم يزعجني.

مشيت ببطء، أراقب وجوه الناس، خطواتهم السريعة، صمتهم المليء بالضجيج.

ثم، بدون تخطيط، وجدت نفسي أمام مقهى صغير.

نفس المقهى الذي كنت أزوره قبل سنوات، حين كنت أكتب قصائدي الأولى على ورق المناديل.

دخلت.

الرائحة… نفس الرائحة.

قهوة سوداء ممزوجة ببقايا موسيقى قديمة.

جلستُ في الزاوية ذاتها، وطلبت نفس القهوة.

وبينما كنت أخرج دفتري من الحقيبة، سقط شيء غريب من داخلها…

رسالة.

مطوية بعناية، ومربوطة بخيط رفيع أحمر.

لم تكن الرسالة لي، ولا مكتوبة بخطّي.

لكنني شعرت أنها نُسيت في حقيبتي عمدًا.

فتحتها، وقرأت بصوت داخلي خافت:

"إلى من تقرأ هذه الكلمات… أنتِ لستِ وحدك. هناك شخص ما، في هذا العالم، يبحث عنك أيضًا. ربما يجلس الآن في مقهى قديم، يقرأ كتابًا عن الحياة، وينتظر أن تأتي."

أغمضت عيني، وأحسست بقشعريرة غريبة.

هل هذه الرسالة حقيقية؟

هل أنا المقصودة؟

هل هذا نوع من المصادفات الغريبة التي يرسلها القدر حين نكون على حافة الانطفاء؟

رفعت نظري بهدوء، وبدأت أراقب الزبائن في المقهى…

وفي الركن المقابل، رأيته.

شابٌ يحدّق في كتاب مفتوح، ويبتسم كأنّه يعرفني.

بقيتُ أراقبه من بعيد…

الشاب الذي جلس بقرب طاولتي، دون أن ينطق بكلمة.

لم يكن في ملامحه شيءٌ ملفت بشكلٍ استثنائي، لكنّه بدا مألوفًا، وكأنّني رأيته في حلم قديم، أو قرأته في صفحة من كتاب نسيت عنوانه.

حاولت التركيز في الكتابة، لكن كل حرف كنت أكتبه، كان يبدو وكأنه يراقبني.

كان يحمل كتابًا عنوانه "الضوء في الداخل"، وكأنّه سخرية من عالمي المنطفئ.

أردت أن أنظر إليه مجددًا، لكنني تردّدت…

لم أكن مستعدة بعد للاحتكاك بالعالم الحقيقي.

لكنّه ابتسم مرة أخرى.

ابتسامة لم تكن عابرة، بل صادقة، غير متكلفة، فيها شيء من الطمأنينة.

تنفّست بعمق، وأخذت رشفة من القهوة التي بردت أمامي دون أن أشعر.

ثم حدث شيء غريب…

هو من بادر بالكلام.

قال:

– "هل تكتبين مذكراتك؟"

تجمّدت يدي، شعرت بقلبي يتوقف لوهلة.

لم أتوقع أن يتحدث…

ولا أن يصيب الهدف من أول سؤال.

نظرت إليه، ولم أُجب بسرعة.

ثم همست:

– "نوعًا ما…"

ضحك بخفّة وقال:

– "لا تقلقي، أنا أكتب أيضًا… ولستُ جاسوسًا."

ثم أشار إلى الكتاب الذي بين يديه وأضاف:

– "كنت أبحث عن نهاية مناسبة لهذه الرواية. لكن يبدو أنّني وجدت بداية بدلًا منها."

صمتنا.

كانت جملته بسيطة، لكنها أصابت شيئًا في داخلي.

بدأت أشعر أن هذا اللقاء لم يكن عاديًا.

هل من الممكن أن يكون هذا الشخص هو صاحب الرسالة القديمة؟

هل جاءت الرسالة لتدفعني إلى المقهى، وأتى هو ليمدّ يده نحو الضوء من جديد؟

أم أنّها مجرد مصادفة، جميلة، نادرة، عابرة؟

لم أطرح أي سؤال، ولم أطلب تفسيرًا.

بل اكتفيت بالاستماع إلى صوته، وكأنّه صوت من الماضي… من عالمي القديم الذي كنتُ فيه أضحك بملء قلبي، وأكتب بلا خوف.

وفي تلك اللحظة، شعرت أنني خرجت من النافذة… لا جسديًا، بل روحيًا.

خرجتُ من وحدتي، من أسئلتي القديمة، من صمتي الطويل.

قبل أن أغادر، قال لي:

– "أنا آتي إلى هذا المقهى كل أسبوع… إن رغبتِ بكتابة النهاية معي، أنا هنا."

لم أُجب، ولم أعد ابتسامته…

لكني شعرت بشيء جديد يولد داخلي، شيء يُشبه الأمل.

ذلك الأمل الذي لم أره في المرآة منذ شهور.

رجعت إلى غرفتي، أغلقت الباب، لكني لم أُغلق النافذة.

للمرة الأولى، تركتها مفتوحة، وتركت قلبي يتنفس هواء العالم.

عدتُ إلى غرفتي وأنا أحتضن ذلك الكتاب بين يديّ كأنه شيء ثمين أُهدي إليّ بعد طول حرمان. لم أكن أدري ما الذي يجب أن أشعر به؛ شيءٌ غريبٌ يختلط بين الهدوء والذهول، كأنّ الحياة بدأت تهمس لي بلغةٍ جديدة لا يفهمها سواي.

أغلقتُ بابي، وركنتُ ظهري إليه، ثم أغمضتُ عيني.

ما حدث ليس عاديًا. ليس حلمًا، وليس صدفةً عابرة.

كأنّ العالم الذي هجَرني، قرّر فجأة أن يطرق بابي، ويمنحني شيئًا من النور.

جلست على الكرسي الخشبي المهترئ، وضعت الكتاب أمامي، وفتحت الصفحة الأولى.

ورقة بيضاء. تنتظر.

كأنها مرآةٌ لا تعكس وجهي، بل أعماقي.

أمسكت القلم، وبدأت أكتب…

لكنني لم أكتب عن الألم، ولا عن الوحدة، بل عن ذلك المقهى… عن الرائحة القديمة، عن عيني ذلك الشاب الغريب، عن تلك الرسالة التي أعادتني إلى السطح بعد أن كدت أغرق.

كتبت كأنني أتنفس.

كأنني أزيح التراب عن قلبي.

كأنّ الكلمات كانت محبوسة داخلي منذ قرون، تنتظر أن أجرؤ.

وكلما كتبت سطرًا، شعرت بشيءٍ ما يذوب في داخلي… جليدٌ كان يقيّدني، خوفٌ كان يمتصّ ملامحي، وكل لحظة أدوّنها كانت بمثابة خطوة صغيرة نحو الشفاء.

مرت ساعتان دون أن أشعر.

عندما رفعت رأسي، وجدت أن الشمس بدأت تنسحب ببطء من نافذتي، تاركة خلفها ظلًا برتقاليًّا دافئًا غمر وجهي.

نظرت إلى وجهي في المرآة…

أهو وجهي فعلًا؟

بدا لي مختلفًا، ليس لأنه تغيّر، بل لأنّني أنا من تغيّرت.

كان هناك شيء جديد في نظرتي… كأنّ غدير التي أعرفها، كانت نائمة في مكانٍ عميق، وصوتها بدأ يعلو.

نهضت وسحبت الستائر، وفتحت النافذة.

كان الهواء نقيًّا، عليلًا، ومعه نسيم لطيف حمل ورقة صغيرة كانت على الحافة، لم أنتبه لها من قبل.

التقطتها. كانت خفيفة، صفراء قليلاً من أطراف

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon