بارت ٢

لا أدري إن كان ما أفعله الآن يُعدّ شجاعة أم مجرّد محاولة بائسة للهروب من الصمت... لكنني، ولأول مرة منذ مدة طويلة، أشعر برغبة صادقة في أن أكتب، لا لأنني أملك شيئًا مهمًا لأقوله، بل لأنني أخيرًا سمعت صوتي الداخلي بوضوح، ذاك الصوت الخافت الذي ظلّ يهمس لي طوال الأيام الماضية: "أنتِ لا زلتِ هنا، لا زلتِ حية، فقط استمعي لي."

أنا غدير، وهذه ليست مجرد مذكرات فتاة تشعر بالوحدة، بل محاولة لفهم كل ما حدث دون أن ألاحظ حدوثه.

كم من الأشياء انطفأت داخلي بهدوء؟ كم من الأحلام تآكلت دون أن أقول لها وداعًا؟

أعرف أنني تغيّرت، وأعرف أكثر أنني لست كما كنت، لكنّي لا أملك إجابة واحدة للسؤال الأهم: لماذا؟

في داخلي فتاة كانت تضحك لأتفه الأسباب، وتبكي بحرارة، وتحب التفاصيل الصغيرة، وتعيش الأيام كأنها أغنية مبهجة. أين ذهبت تلك الفتاة؟ وهل أنا هي، أم أصبحت مجرد ظلّ لها؟

كل ما أعرفه أنني بتّ أستيقظ كل صباح دون شغف، أتأمل سقف غرفتي لعدة دقائق قبل أن أقنع نفسي بالنهوض. لا مهام تنتظرني، ولا أحد يفتقدني إن تأخرت عن روتيني.

لكن هناك شيء لا يزال يربطني بالحياة، شيء صغير جدًا، لا يُرى، لكنه حاضر... ربما هو الأمل، وربما الكتابة، وربما شيء لم أكتشفه بعد.

أحيانًا أبتسم بلا سبب وأنا أرى كوب الشاي يتصاعد منه البخار في هدوء، أو حين أرى وردة مجففة داخل صفحات كتاب قديم كنت أقرؤه في لحظة من لحظات سعادتي الماضية.

أنا لست حزينة تمامًا، ولست سعيدة أيضًا... أنا فقط في المنتصف، وأحاول أن أكتشف نفسي من جديد.

أجلس لساعات طويلة بجانب النافذة. هذه النافذة أصبحت صديقتي. أراقب من خلالها العالم وكأني لست جزءًا منه، أراه يمضي وأنا ثابتة.

لكني مؤخرًا بدأت أطرح على نفسي سؤالاً جديدًا: ماذا لو لم أعد أكتفي بالمراقبة؟ ماذا لو حاولت العودة للحياة قليلًا؟ ليس بالضرورة أن أقفز فجأة، ربما فقط أفتح النافذة أكثر، أتنفس بعمق، أمدّ يدي للحياة على استحياء.

أنا غدير، وأكتب لأني أؤمن أن الكلمات قادرة على جمع شظايا الروح المبعثرة.

أكتب لأني تعبت من التظاهر بالقوة، ومن الابتسام في وجه المرآة وأنا أعلم أن في داخلي صرخة مكتومة.

أكتب لأنني أستحق أن أُفهم، حتى لو كان الوحيد الذي يفهمني هو أنا.

 

كثيرًا ما أسأل نفسي: منذ متى وأنا أشعر بهذا الثقل في صدري؟

ليس وجعًا حادًا، بل شيء يشبه الغيمة، تعلّق في داخلي منذ زمن، لا تمطر، ولا ترحل.

ربما هي تراكمات أيامٍ مرّت دون أن أشتكي، دون أن أتحدث، دون أن أبوح لنفسي حتى بما أزعجني.

لطالما كنت الطفلة التي لا تُحب أن تُثقل على أحد، التي تبتلع حزنها كي لا تُزعج، والتي تضع على وجهها ابتسامة كي لا تُقلق.

كنت أظن أنّ هذه قوة... أن أكون "الفتاة القوية"، تلك التي لا تنهار، ولا تحتاج، ولا تبكي أمام أحد.

لكني أدركت متأخرة أن القوة الحقيقية ليست في كتمان الألم، بل في امتلاك الشجاعة للاعتراف به.

أصبحت أفتقد حتى حزني القديم، ذاك الحزن البسيط الذي كنت أكتب عنه بأسلوب شاعري، وأجد فيه نوعًا من الجمال.

أما الآن، فحزني بلا صوت، بلا شكل، كأنه يلبس ثوب الصمت، يتجوّل داخلي متى شاء، ويجلس في الزاوية كما لو كان جزءًا مني لا يمكن فصله.

كلما فتحت دفاتري القديمة، أضحك وأبكي في آنٍ معًا...

كنت أكتب بفرح، أزيّن الصفحات برسمات صغيرة، أكتب عناوين براقة مثل: "يوم ممتع جدًا"، "ضحكت كثيرًا"، "أفضل لحظة في حياتي"...

واليوم، كل عنوان هو مجرد تاريخ فوق صفحة بيضاء، أو جملة غامضة لا تفهمها سوى فتاة كانت تصرخ من الداخل.

لكني رغم كل هذا، لا أكرهني.

أحب هذه الغدير الصامتة، المتأملة، التي بدأت ترى العالم من زاوية مختلفة.

ربما لم أعد تلك الفتاة الصاخبة، لكنّي أصبحت أكثر وعيًا، أكثر صدقًا مع نفسي، وأكثر لطفًا.

أنا الآن أتعلم كيف أكون لي، كيف أعتني بي، كيف أقول لنفسي: "لا بأس، أنت بخير حتى وإن شعرت بالعكس."

--

في بعض الليالي، حين يُخيّم السكون على غرفتي، أستلقي على سريري وأتحدث مع نفسي بصوتٍ داخلي:

"غدير، ماذا حدث؟ أين تلك النار التي كانت في عينيك؟ لماذا أصبحتِ تخافين من الضوء؟"

ثم أضحك، أحيانًا بسخرية، وأحيانًا بلطف، وأجيب: "لم أنطفئ، فقط تعبت. وأحتاج أن أستريح قليلاً."

وهذا في حدّ ذاته، إنجاز. أن أسمح لنفسي بالتعب، أن أتقبل ضعفي دون جلد.

أعلم أن هناك الكثير من الفتيات مثلي، يختبئن خلف واجهات القوة، ويمشين في الحياة وقلوبهن ثقيلة،

لكنّني أكتب اليوم لأقول لكل فتاة مثلي: أنتِ لستِ وحدكِ، وما تمرّين به حقيقي.

لا تخجلي من حزنك، ولا تعتذري عن مشاعرك، فكل شيء فيكِ يستحق الفهم، لا الحكم.

أشعر أحيانًا أن قلبي أصبح أكثر رهافة.

أبكي من مشهد بسيط في فيلم، أو حين أسمع جملة تشبهني، أو أرى امرأة مسنّة تمشي ببطء في الشارع...

ربما لأنني أصبحت أرى ما وراء الأشياء، لم أعد أمرّ مرورًا عابرًا، بل أتوقّف، أتأمل، وأفهم.

لم يعد هدفي في الحياة أن أكون "سعيدة طوال الوقت"، بل أن أكون حقيقية، أن أكون حاضرة في لحظاتي، حتى في الحزن.

أن أشعر بعمق، وأحب نفسي برفق، وأصافح ضعفي بلا خجل.

 

في إحدى الأمسيات، وبينما كنت أجلس أمام نافذتي المعتادة، رأيت فتاة صغيرة تقف مع والدتها، تمسك ببالون أحمر وتضحك بصوتٍ عالٍ دون أن تهتم لنظرات الناس.

ضحكتها كانت نقية، صافية، وكأنّها تخرج من قلبٍ لا يعرف الخوف، ولا يهاب الحياة.

نظرتُ إليها طويلًا، وكأنني أبحث عني فيها...

هل كنتُ أضحك هكذا يومًا؟ وهل كنتُ أحمل تلك العفوية في خطواتي؟

أعتقد أن كلّ إنسان يولد وهو نقيّ تمامًا، شفاف كالماء، ثم تلوثه التجارب شيئًا فشيئًا.

وليس المقصود هنا بالنجاة أن نعود كما كنا، بل أن نتعلّم كيف نكون نقيّين رغم كلّ ما مررنا به.

أن نكون نحن، بكلّ ما فينا من ندوب، وتشققات، وتفاصيل صغيرة جعلتنا نضجّ في العمق.

لم أعد ألوم نفسي على تغيّري، بل صرت أحتضن هذا التغير، أحاوره، أحاول أن أفهمه، وأسأله: "إلى أين تأخذني؟"

بدأت أؤمن أن لا شيء يحدث صدفة، وأن هذه المرحلة الصعبة لم تكن عقوبة، بل درسًا... فرصة لأتعلّم حبّ الذات الحقيقي، ذاك الحبّ الذي لا يشترط أن أكون دائمًا مشرقة كي أستحقه.

صرت أستيقظ وأصنع لنفسي فنجان قهوة كما لو أنّه هدية.

أختار موسيقى هادئة، أفتح الستائر، وأقول لنفسي:

"غدير، اليوم ليس عليكِ أن تكوني خارقة... فقط كوني هنا، وكفى."

أصبحت أقدّر التفاصيل الصغيرة:

الرسائل القصيرة التي تصلني من صديقة قديمة، صوت العصافير عند الفجر، طعم الشوكولاتة الذي يعيد لي ذكريات الطفولة، وأحاديث أمي العفوية في المساء.

كلّ هذا لم أكن أراه من قبل، أو ربما كنت أراه دون أن أشعر بقيمته.

لكن الآن، بعدما اختبرت الوحدة، أدركت أن الحياة ليست في الأحداث الكبيرة، بل في التفاصيل التي تمرّ بنا دون أن ننتبه لها.

أحيانًا، أكتب لنفسي رسائل... أضعها في صندوق صغير داخل درجي،

رسائل أقول فيها أشياء لا أجرؤ على قولها بصوت عالٍ:

"أنا فخورة بكِ لأنكِ ما زلتِ تقاومين"،

"أنتِ لم تفشلي، فقط تعبتِ قليلاً"،

"الضوء سيعود، فقط اصبري."

هذه الرسائل تُشبهني، تُشبه قلبي حين يُقرّر أن يكون طيّبًا حتى في أقسى الظروف.

لا أكتبها لأنني بخير، بل أكتبها لأنني أريد أن أكون بخير.

 

ورغم أنني لا أزال داخل غرفتي، ولا زالت نافذتي هي عالمي الصغير،

إلا أنني أشعر، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أنني أفتح النافذة لا لأراقب الحياة فقط، بل لأعود إليها... ولو بخطوة واحدة في اليوم.

الفتاة التي كنتُها لم تختفِ، هي فقط اختبأت داخل زوايا قلبي تنتظر مني أن أناديها.

وها أنا أناديها الآن، بلطف، بلا استعجال، وأقول لها:

"عدي إليّ متى ما شعرتِ بالأمان، أنا لن أترككِ بعد اليوم."

 

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon