بارت ٤

في صباحٍ خريفيٍّ رماديّ، كنتُ أحتسي كوب الشاي بهدوء، أراقب البخار المتصاعد منه كأنه يكتب شيئًا في الهواء، شيئًا لا يُقرأ… لكن يُحس.

ذلك اليوم كان عادياً من حيث التفاصيل، مختلفاً من حيث الداخل.

جلست على مكتبي، وفتحت جهاز الحاسوب. كنت أتنقّل بين الصفحات بلا هدف، وكأنني أبحث عن شيءٍ لا أعرفه، شيءٍ يشبهني، يشبه الصمت الذي يسكنني.

فجأة، وجدت منشورًا في إحدى المجموعات الأدبية الصغيرة، كان تعليقًا قصيرًا، لكن الكلمات فيه حملت حزنًا خفيًّا جذبني بقوّة:

> "أشعر أنّ الحياة فقدت لونها… لا أكتب لأشتكي، فقط كي لا أختنق."

كان توقيعه "إيم جونسون".

ضغطت على اسمه، وتصفّحت ملفه…

شابٌ لا يضع صورة، كلماته قليلة، والظلام ينساب من بين سطوره كأنّه يحاول أن يكتب عن عالمٍ داخلي لا ينجو منه أحد.

شيءٌ في داخلي دفعني لأن أرسل له رسالة…

لا أعرف السبب.

ربما لأني شعرت أنني أعرفه، أعرف هذا الضياع، هذا التعب الصامت، هذا الشعور بالفراغ رغم الضجيج.

كتبت له:

> "مرحباً إيم، لا أعرفك، ولا تعرفني، لكنني قرأت تعليقك، وشعرت أنني أود أن أقول لك شيئًا بسيطًا… ما زال هناك لون في الحياة، فقط قد يكون مختبئًا خلف طبقات من التعب. لا أطلب منك أن تؤمن بكلامي، فقط اقرأه."

أرسلت الرسالة، وأغلقت الجهاز.

لم أكن أتوقع ردًا… لكنّ شيئًا ما بداخلي كان مرتاحًا لأنني فعلت ذلك.

بعد ثلاث ساعات، عاد الرد.

كان بسيطًا، وجافًا بعض الشيء:

> "شكرًا… لا أظن أن هناك لونًا متبقّيًا. لكن لطيفٌ أنكِ ما زلتِ تحاولين رؤية شيء فيه."

ابتسمت، رغم الألم في كلماته.

لا يعرف إيم أنني أشبهه كثيرًا… بل ربما أكثر منه.

لكنه لا يعلم أنني اخترتُ، ولو بخيطٍ ضعيف، أن أكون سببًا في أن يبتسم أحدهم، حتى وإن كنت لا أبتسم من الداخل.

تكررت رسائلنا…

يومًا بعد يوم، بدأ يكتب لي أكثر، وإن ظلّ محتفظًا بنبرة التشاؤم.

كان يعترف أحيانًا بأنه يشعر بأن لا أحد يفهمه، وبأنه يكتب لأنه لا يملك وسيلة أخرى للتنفس.

كنت أرد عليه دومًا بلغةٍ مختلفة…

لغة فيها دفءٌ لم أعد أقدّمه لنفسي، لكنني كنت أقدّمه له.

أحكي له عن لحظات صغيرة قد تغيّر يومًا، عن صوت المطر، عن رائحة الكتب، عن ضوء الصباح حين يتسلّل من نافذتي، عن فكرة أن الحياة ليست جميلة دائمًا، لكنها تمنحنا لحظات جميلة تكفي لنعيش.

كنت أرسل له الصور التي ألتقطها من نافذتي، وأصفها له كأنني أخلق له نافذةً أخرى، لا يراها هو، لكنني أصرّ أن يراها من عيني.

لم يكن يدري أنني حين أواسيه، كنت أواسي نفسي أيضًا.

لم يكن يعلم أنني أكتب له لأمنعه من السقوط، بينما أنا أتدلّى على الحافة ذاتها.

لكنّ الفرق أنني كنت أملك سببي…

سببي أن أمنح العالم ولو لمسة لطف، لأنني أعرف تمامًا ماذا يعني أن لا تجد أحدًا يربّت على روحك.

كنت أفكر دائمًا:

ماذا لو علم أنني أبكي بعد أن أغلق رسائلي؟

ماذا لو عرف أن كل كلمة أكتبها له، كنت أحتاج أن أسمعها أنا؟

ربما كنت أكذب عليه… أو ربما لا.

لكنني كنت أؤمن أن بعض الأكاذيب البيضاء، تصنع نورًا في حياة الآخرين.

في إحدى الرسائل، كتب لي:

> "غدير، لا أعلم كيف تفعلين ذلك… تجعلينني أبتسم أحيانًا دون سبب. لا أعرف من أنتِ بالضبط، لكنكِ تشبهين نافذة تُفتح في جدارٍ أظنه مغلقًا."

ضحكت وأنا أقرأ ذلك.

هو لا يعلم كم مرّة تمنيت أن يكتب أحدهم لي ذات العبارة.

لكن لا بأس…

أنا النافذة.

وسأظل أكتب له، وسأظل أفتح له النور… حتى وإن بقيت أنا في الظل.

في تلك الليلة، كتبت في دفتري:

"أحيانًا، أجعل الآخرين يرون الضوء لأنني لا أريدهم أن يتعوّدوا على العتمة التي عشتُها طويلاً. ولعلّ ذلك وحده يكفيني لأشعر أنني أُحدث فرقًا، ولو بسيطًا… في حياة شخص لا يعرف حتى ملامحي."

-

لا أعلم كيف بدأت، ولا متى...

لكنّ شيئًا بداخلي تغيّر منذ أن بدأت أراسله.

لم يكن الأمر مجرد رسائل، ولا مجرد تسلية عابرة...

بل كان يشبه الغرق الهادئ، الذي لا تدركه إلا حين تلامس القاع.

إيم جونسون...

اسم غريب لصوت مألوف في قلبي.

شاب كئيب، صوته يشبه غيمة رمادية، لا تمطر، لكنها تُثقل صدري بلطف.

لا يحب الحياة، لا يثق في الحب، ولا يرى أي نور في نهايات الطرق.

ومع ذلك... أنا هنا، أحاول أن أضيء له شمعة، ولو احترقت أصابعي لأجلها.

كنت أنا من اقترح اللعب.

"هل ترغب أن نلعب تحدّي وصراحة؟"

كتبتها دون تفكير، وأنا أبحث عن طريقة لأجعله يبتسم.

فقال ببرود لطيف:

"إن ضمنتِ لي أنني لن أندم، فلنرفض الرتابة."

ومنذ تلك الليلة، صار الهاتف نافذتي الثانية.

حديثنا لم يكن كله تحديات...

بل كانت جلسات صغيرة من الاعتراف، والضحك، والراحة.

كأنني أستعيد نفسي معه... وأكتشفه داخلي.

كنت أسأله:

"لماذا تكره الحب؟"

فيردّ:

"لأنه وعد لا ينجو من الكسر."

فأقول:

"ربما، لكنّ هناك قلوبًا تُصلح أكثر مما تُكسر."

كان يقرأ لي مقاطع من كتبي، ويعلّق بجمل مقتضبة.

لكنه ذات مرة كتب لي:

"هذا المقطع… يشبهني كثيرًا."

قلت:

"أي مقطع؟"

قال:

> "ذاك الذي تصفين فيه البطل قائلًة: هو لا يبتسم كثيرًا، لكنه حين يضحك، يبدو كمن نجا من غرق طويل."

وقفت عند عبارته، قلبي ارتجف.

هل شعر بشيء؟ هل أدرك أنني أكتب عنه؟

أردت أن أخبره، أردت أن أصرخ:

نعم، هذا أنت. كل الحروف تنتمي إليك.

لكني ابتلعت لهفتي وكتبت:

"إن أعجبك المقطع، فربما أنت تشبهه فعلاً… أو هو يشبهك."

كنت أضع القلوب في طرف الرسائل، ثم أمسحها قبل أن أرسل.

هو لا يحب الحب، وأنا أخشى أن أخسره بصراحة زائدة.

أخشى أن يفهم مشاعري، فيبتعد…

لكنني أكتب، وأشعر، وأتمنى أن يقرأني جيدًا، بين السطور.

نضحك أحيانًا…

هو يرسل لي كلمات ساخرة، وأنا أضحك رغمًا عني.

قال لي ذات مساء:

"أنتِ تضحكين على كل شيء، هل هذه طريقتك في الهروب؟"

فأجبته:

"بل هي طريقتي في الحياة."

هو لا يعلم أنني أشبهه أكثر مما يتخيل.

أنني أعيش حزنه ذاته، لكنني أرتدي قناع الفرح كي لا أقلق أحدًا.

أواسيه بكلماتي، وأواسي نفسي بذلك.

أحيانًا، حين يختفي لساعات، أفتقده…

لكني لا أقول.

أكتب له جملة عادية، وأسأل عن شيء تافه، وأنتظر حضوره كمن ينتظر مطرًا بعد جفاف طويل.

سألني مرة:

"هل تؤمنين بالقدر؟"

قلت:

"أؤمن أن لكل قلب طريقًا... وأحيانًا نلتقي بأشخاص يكونون المحطة والرحلة معًا."

كان صامتًا، كأنّه يقرأني دون أن يعلّق.

وكأنّه عرف أنني أقصده، لكنه فضّل السكوت.

كل مساء، أكتب سطرًا جديدًا في روايتي، وأذكره.

أُسقط ملامحه في شخصية صامتة، لكنّها مدهشة.

أمنحها طباعه، كآبته، رُقيّه، وحتى ردوده الساخرة.

أريد أن يقرأ، أن يرى نفسه، أن يسألني بصوتٍ خافت:

"غدير، هل هذه الشخصية… أنا؟"

وأجيبه بعينين مبتسمتين:

"أنت كل القصّة."

لكنني لا أقول.

أبقي مشاعري خفية، خجولة، متوارية كغيمة ربيعية.

هو الآن جزء من يومي… من روايتي… من قلبي.

ومع كل ضحكة أضحكها معه، أشعر أن الحياة ما زالت ممكنة…

وأنّ هناك دومًا، ولو شخصًا واحدًا، يستحق أن نبقى لأجله.

---

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon