لم أنم في تلك الليلة.
جلستُ على سريري، أراقب السقف، وأفكر…
الولد… يشبهني.
عيناه. جبهته. حتى طريقته في الابتسام… كأنه انعكاس لطفولتي.
لم يكن هناك مجال للشك.
ولم أكن أبحث عن دليل.
كنت فقط… غارقًا في شعور لا أفهمه.
أنا… أب؟
هل هذه الكلمة تناسبني؟
هل أستحقها؟
أغمضتُ عيني… فعاد وجهها.
ليلى.
كم تغيّرت.
لم تعد تلك الخادمة التي تسير بخجل في ممرات القصر، تخفض عينيها كلما مرّ أحد.
الآن… تمشي مرفوعة الرأس.
عيناها لا تهربان من عيون الآخرين.
صوتها ثابت، وكلماتها مؤلمة… لأنها حقيقية.
"الندم لا يُربّي طفلًا."
جملتها كانت كصفعة.
ولأول مرة، شعرت أنني كنت جبانًا… حيوانًا مُدلّلاً يختبئ خلف لقب العائلة.
في الصباح، دخلت والدتي غرفة الطعام كعادتها، مرتدية فستانها المخملي، وشعرها مرفوعًا بعناية كملكة لا تخطئ.
"سمعت أنك قابلت تلك الفتاة."
رفعت رأسي نحوها، ولم أجب.
"كمال، لا تكن أحمق. لا تُقحم نفسك مجددًا في القذارة."
"اسمها ليلى، يا أمي. وليست قذارة."
تجمدت.
كانت هذه أول مرة أصحّحها… أول مرة أنطق اسمها أمامها بقوة.
"وهذا الطفل؟ أهو فعلًا ابنك؟"
نظرت إليها طويلًا… ثم قلت:
"نعم. وأنا فخور به."
ارتفعت حرارة وجهها.
ضربت الملعقة على الطاولة، وقالت:
"لن أسمح لهذه الفتاة أن تدنّس اسم العائلة مجددًا!
لقد طردناها… أنسيت؟!
لماذا تُعيد أخطاءك من جديد؟"
"لأني هذه المرة… لا أراها خطأً."
خرجت من القصر.
ذهبت إلى الحي الذي تسكنه.
راقبت من بعيد، ولم أقترب.
كانت تمسك بيد ياسين، تضحك معه، تشتري الخبز، تحمله أحيانًا…
لم تكن أمًا فقط.
كانت وطنًا صغيرًا يمشي بجانبه.
اتصلتُ بها مساءً، قالت فقط:
"لماذا تراقبنا؟"
أجبتُ:
"لأني لا أملك شجاعة الاقتراب بعد."
في اليوم التالي، استدعاني مجلس إدارة الشركة.
أحد الحضور، المديرة "نورهان"، نظرت إليّ وقالت بابتسامة صفراء:
"سمعنا أخبارًا مثيرة… كمال لطفي عاد يهتم بالحالات الإنسانية؟ أم أن هناك خادمة قديمة أصبحت سيدة قلبك؟"
ضحك بعضهم.
أما أنا، فنظرت في عينيها مباشرة وقلت:
"كل ما سمعتموه صحيح.
وصدقيني… سيدة قلبي الآن… أقوى منكم مجتمعين."
وفي داخلي…
كنت أعرف أن الحرب بدأت.
لكن للمرة الأولى…
كنتُ مستعدًا أن أخسر كل شيء،
إلا ليلى… وياسين.
في صباح يوم رمادي، كانت ليلى تسير متجهة للعمل في المكتبة الصغيرة التي تديرها، بينما ياسين في المدرسة المجاورة.
كانت خطواتها ثابتة، لكن عقلها كان مغمورًا بأسئلة لا تنتهي.
هل بدأ كمال يُغيّر؟
هل عادت تلك المشاعر القديمة للحياة؟
هل يمكن لقلب مكسور أن يُرمم من جديد… على يد من كسَره؟
لكن الأسئلة توقفت عندما دخلت إلى المكتبة…
ووجدت "نورهان" تجلس على الكرسي أمام مكتبها، تعقد ساقيها، وتبتسم ابتسامة باردة.
نورهان… المرأة التي كانت دومًا تحوم حول كمال كذبابة فاخرة…
وها هي الآن، أمامها، لا للقراءة… بل للهجوم.
"أوه، ليلى… لم أتوقع أن أراك هنا. كنت أظنك… طيفًا من الماضي."
أجابت ليلى بهدوء:
"وأنا لم أتوقع أن تأتين لتشتري كتابًا، هل نزلت الرواية التي تفهمينها أخيرًا؟"
ضحكت نورهان بصوت مزيف، ثم اقتربت من الطاولة.
"جئت لأراك. لأتأمل كيف تتصرف امرأة فقيرة… حين تظن أنها انتصرت."
صمتت ليلى، وأغلقت الدفتر بهدوء.
"إذا كنتِ تبحثين عن عرض مسرحي… القصر لا زال فيه مرآة كبيرة. اذهبي وتأملي نفسك."
لكن نورهان لم تُرد المزاح.
"كمال… رجل لا يناسبك.
أنتِ كنتِ خادمة، ليلى. مهما تظاهرتِ بالقوة، خلفك ماضي لا يُغتفر."
رفعت ليلى نظرها وقالت:
"كمال هو من عليه أن يتساءل إن كنت أناسبه… لا أنتِ."
أجابت نورهان:
"إن ظننتِ للحظة أن المجتمع سيسمح لكِ بأن تكوني زوجة له… فأنتِ أحمق من أن أفكر في إهانتك.
الكل سيحاربك.
أولهم عائلته.
وثانيهم… أنا."
قبل أن ترد ليلى، دخلت "ريما" فجأة.
أخت كمال الصغرى، بملابس بسيطة، ونظرة حادة.
"أوه، يبدو أن الحشرات لا تزور فقط القصور… بل المكتبات أيضًا."
نظرت إليها نورهان باشمئزاز.
"ريما… ما زلتِ تحشرين نفسك في أمور الكبار؟"
اقتربت ريما حتى صارت أمامها مباشرة، وقالت:
"بل ما زلتُ أملك عينين تميّزان بين الإنسان… والمتسلقة."
ثم نظرت إلى ليلى وقالت:
"لا تضيّعي وقتك معها، أختي.
نحن لدينا كتب نبيعها… وحياة نبنيها.
وهي لديها مرآة تتحدث معها كل ليلة."
غادرت نورهان والمكان مشحون…
لكن ليلى، للمرة الأولى منذ زمن، شعرت أنها ليست وحدها.
"شكرًا، ريما…"
"أنا من يجب أن يشكركِ.
أنت الوحيدة التي رأت الحقيقة… في زمن كله أقنعة."
في المساء، وصلت رسالة على هاتف ليلى:
"أرجوكِ، لا تصدّقي ما يقولونه.
أنا… لست كما كنت.
هل يمكنني رؤيتك؟ وحدنا؟"
رسالة من كمال.
لكن ليلى نظرت إلى الشاشة…
ولم ترد.
في صباح اليوم التالي، وصلني اتصال من رقم مجهول.
رفعت السماعة بتردد، فإذا بصوت حاد، بارد، لا يحتمل أي نقاش:
"ليلى… هذه والدتي، حاكمة القصر الذي لطردتك منه."
لم يكن في الصوت سوى تحذير، وليس طلبًا للحديث.
قلتُ ببرود:
"ماذا تريدين؟"
كانت تصرخ مباشرة، كما لو أنني عدوها:
"أريدك أن تعرفي، لن تُدخلي منزلنا مجددًا.
كمال هو ابني الوحيد… واسمكِ وصلكِ لن يكون له مكان بيننا."
أشعرت برعشة في يدي، لكنني حاولت أن أبدو قوية.
"أنا لم أطلب شيئًا.
ابني، ياسين، هو الذي يحتاج إلى أبيه… لا أبحث عن لقب."
"ياسين؟ ابنك؟
ستجديننا خصومًا، وليس شركاء.
إذا ظننتِ أن القصر سيسمح لطفل خادمة… فأنتِ تعيشين في حلم."
ضحكتُ ساخرًا:
"أوه، هذا الحلم… هو فقط ما يمنحني الأمل لأقاتل."
توقف الصوت للحظة ثم قال:
"أنتِ محظوظة أنني لم آتِ بنفسي لأُخرجكِ من المدينة."
ثم قطع الاتصال.
وضعت الهاتف جانبًا، وأخذت نفسًا عميقًا.
هذه المعركة لم تبدأ بعد…
ولكنني كنت مستعدة.
في ذلك اليوم، جاء كمال ليزورني.
نظر إليّ بعيون حزينة، وقال:
"أمي… ستجعل حياتنا جحيمًا."
أجبتُ:
"هذا ما يحدث عندما تكون عائلتك ملكًا على الجليد…
تجمد كل مشاعر الحب والرحمة."
ابتسم بابتسامة ضعيفة وقال:
"لكنني سأقف معكِ، مهما كلف الأمر."
قبل أن يغادر، قال:
"ليلى، لا تفتحي الباب لأيّ شخص آخر غيري.
حتى لو جاءوا بأسماء وتهديدات."
وقفتُ أمام النافذة، أنظر إلى السماء الرمادية،
وأدركتُ أن الحرب الحقيقية قد بدأت.
20تم تحديث
Comments