لم يتحرك.
ولا أنا.
كأن الوقت تجمّد فجأة في تلك اللحظة، ورفض أن يتابع.
وقف كمال لطفي أمامي بنفس الطول، بنفس الملامح... لكن هناك شيء فيه تغيّر.
تجاعيد خفيفة بجانب عينيه، نظرات شاحبة كأنها تائهة، وكأن الحياة مزّقت شيئًا منه على مهل.
كان يرتدي بذلة سوداء أنيقة، وربطة عنق رمادية، كأنه خرج من مجلة رجال الأعمال.
لكنني لم أعد أراه كما كنت أراه سابقًا.
"ليلى..."
"أهذا... أنتِ؟"
كلماته خرجت مترددة، وكأنه لم يصدق أني حقيقية.
وقفت أمامه، يدي على كتف طفلي، أنظر إليه بنظرات صلبة، صامته… لكن قلبي…
كان يهتزّ كأن الأرض تحت قدمي لم تعد موجودة.
أجبت بعد ثوانٍ طويلة:
"نعم. هذه أنا."
ثم نظرت إلى "ياسين"، وقلت له برفق:
"اذهب للزاوية، العب هناك قليلًا، ماما ستلحق بك بعد قليل."
أطاعني دون أن يسأل.
طفلي ذكي.
يفهم من عيني إن كنت بخير أو لا.
كمال لا زال ينظر إليّ…
لكن نظراته لم تكن كما في السابق.
لم تكن مليئة بالغرور أو البرود… بل بالحيرة. بالندم؟ بالخوف؟
لا أعرف.
"تغيّرتِ."
قالها وهو يُمرر عينيه على وجهي كما لو أنه يُقارن بين الصورة التي كانت في ذاكرته، والمرأة التي أمامه الآن.
"أجل… وأنت أيضًا."
"بس أنا تغيّرت لأنني كنت مجبرة… وأنت؟"
سكت.
وكأنه ضُرب بكلمة لم يكن يتوقعها.
حاول أن يبتسم… لكنه فشل.
"سمعتُ أنك… أنك اختفيتِ فجأة، ولم يعلم أحد أين ذهبتي."
"بحثتُ… صدقيني…"
ضحكت. ضحكة صغيرة، ساخرة.
"بحثت؟ قبل أم بعد أن رميت النقود على وجهي؟
قبل أم بعد أن شاهدتني أُطرد وأنت صامت؟
قبل أم بعد أن... دمرتني؟"
كان يريد أن يقول شيئًا… شيء يبرر به صمته القديم.
لكن لا توجد كلمات تغفر ما فعله.
"لم أكن أفهم… كنتُ صغيرًا… خائفًا من الفضيحة… من عائلتي…"
"وكنتُ أنا… مجرد خادمة.
فتاة يتيمة… فقيرة… لا صوت لها."
سكت.
لأول مرة… أراه عاجزًا عن الرد.
قلت وأنا أنظر إليه مباشرة:
"أتعلم؟
أنا لم أعد أحتاج تبريرك.
مرت سنوات كثيرة… وتعلمت أن أعيش دون أي تفسيرات منك.
لكن هناك شيء واحد لا يمكنك الهرب منه، كمال..."
رفعت يدي، وأشرت إلى "ياسين" من بعيد، وهو يرسم على ورقة ملونة في الزاوية.
"ذاك هو ابنك."
تجمّد كمال.
مقلتيه اتّسعتا كما لو أنه سمع شيئًا مستحيلًا.
"مـ... ماذا؟"
"اسمه ياسين.
ستّ سنوات.
يحب الرسم، ولا يعرف من والده.
أخبرته أن والده مسافر... وأنه سيعود يومًا ما.
لكن يبدو أنني كنتُ أكذب."
اقترب خطوة… خطوة واحدة فقط.
ثم توقّف.
"ليلى… لماذا لم تخبريني؟ لماذا لم تتواصلي؟ لماذا…؟"
قاطعته بهدوء:
"أوه، آسفة، نسيت أنني كنت أملك هاتف آيفون في تلك الليلة…
أو منزلًا… أو حتى ثمن الخبز."
تراجع كمال خطوة، وكأنه أصيب بكفّ في وجهه.
"أنا… آسف."
كانت هذه أول مرة أسمعها منه.
آسف.
كلمة صغيرة جدًا… لكنها خرجت بصعوبة منه، وكأنها ثقيلة على لسانه.
نظرت له طويلًا…
ثم قلت:
"الندم لا يُربّي طفلًا، كمال.
ولا يُعيد كرامة امرأة."
لحظة صمت بيننا.
ثم سمعنا صوتًا ناعمًا يقترب:
"ماما! خلصت رسمي!"
ياسين جاء يركض نحوي، يحتضنني من خصري، ويبتسم ببراءة.
لكن عيني كمال كانتا عليه فقط.
دمعتا تقريبًا.
كان يُحدّق في وجهه كأن قلبه يعرفه دون شهادة.
"أهذا… أنا؟ يشبهني كثيرًا…"
"نعم، يشبهك… لكنه لا يعرفك."
انحنى كمال ببطء، ونظر في عيني ياسين:
"مرحبًا… ما اسمك؟"
نظر له الطفل قليلًا، ثم قال:
"أنا ياسين.
وأنت؟"
تردّد كمال، ثم همس:
"أنا… مجرد رجل غاب طويلًا."
مشيت مع ابني دون أن أقول وداعًا.
لكن في داخلي، كنت أعرف أن تلك اللحظة…
لم تكن النهاية.
بل بداية شيء…
شيء خطير…
وجارح…
وربما… عاصف.
خرجتُ من المعرض الخيري بخطى ثابتة، وياسين يركض بجانبي، يمسك إصبعي، ويضحك على شيء في الرسمة التي رسمها للتو.
"شوفي ماما، رسمتُ بيتنا وفيه قطة صغيرة."
ابتسمت له، وهززت رأسي كأن كل شيء بخير…
لكن صدري لم يكن مطمئنًا.
كل خطوة كنت أخطوها، كنت أشعر بنظرات كمال خلفي… كأنها تخترق ظهري، كأنها تبحث عن مكان بين عظامي لتستقر فيه.
تلك النظرة… التي رأيتها في عينيه قبل أن أستدير…
لم تكن نظرة رجل نادم فقط،
بل نظرة رجل وقع في شباكي… متأخرًا جدًا.
في الطريق، بدأ قلبي يرتجف…
لكنني كنت أعرف كيف أُسكته.
ست سنوات من الوحدة علمتني كيف أُربّي قلبي كما ربيت ابني…
أن أقول له:
"اسكت… لا تفضحني."
في مساء ذلك اليوم، كنت أعدّ العشاء حين رنّ جرس الباب.
نظرت من النافذة…
قلبت الدنيا ولم أجد غيره… واقفًا بسيارته السوداء الفاخرة أمام البيت، يحمل في يده علبة شوكولا.
فتحت الباب.
لم أرحب. لم أُظهر مفاجأة. فقط قلت:
"أخطأت العنوان. بيت الفقراء في الزقاق الخلفي."
ابتسم، ابتسامة خفيفة لا تحتوي على سخرية.
"أعرف. وجئت إليه بنفسي."
صمتنا قليلًا.
ثم أخرج من جيبه ظرفًا أبيض.
"هذا… بطاقة دعوة لحفل خيري جديد… لكن ليس من أجلك.
بل من أجل… ياسين."
نظرت إلى الظرف ولم أمد يدي.
"لماذا الآن؟ بعد كل هذه السنوات؟"
"لأنني أخيرًا امتلكت الشجاعة لأرى ما خلف أفعالي…
ولأنني… أريد أن أكون جزءًا من حياته، لا متفرجًا."
قبل أن أرد، خرج ياسين فجأة من الداخل.
"ماما… من هذا؟"
نظر إليه كمال وابتسم ابتسامة لم أرها في حياته من قبل…
انخفض إلى مستوى نظره وقال:
"أنا… صديق ماما القديم."
دخل كمال لعدة دقائق، جلس مع ياسين، سأله عن المدرسة، هواياته، وعن القطة التي رسمها.
وياسين، كعادته، كان ودودًا دون أن يعرف أي شيء.
كنت أراقب بصمت…
وكل لحظة تمر، أشعر بالخطر.
خطر من نوع مختلف… ليس على ابني، بل على قلبي.
ذلك القلب اللعين…
الذي ينسى الإهانة… ويخفق للحظة صدق.
غادر كمال بعد ساعة.
وقبل أن يخرج، قال لي:
"ليلى…
سأكفّ عن الكلام…
وأبدأ بفعل ما يجب عليّ فعله.
لكن رجاءً… لا تغلقي الباب بعد الآن."
مرت أيام.
وفي كل يوم، كان هناك شيء يتغيّر.
ياسين صار يضحك أكثر، صار يسأل عن "العم كمال"،
وأنا… صرت أخاف من نفسي.
حتى أتى يوم تلقيت فيه دعوة مفاجئة:
"سيكون هناك تكريم لأطفال موهوبين في الرسم… ابنك من بينهم.
والراعي الرسمي؟
كمال لطفي."
ذهبت.
كانت القاعة فاخرة، والناس تنظر إليّ كأنني غريبة عنهم…
لكنني كنت أمًا، فخور بطفلها.
في وسط الحفل، صعد كمال إلى المنصة.
كان وسيما، هادئًا، مختلفًا عن ذاك الشاب المتغطرس.
"أصدقائي…
الحب لا يُقاس بالكلمات، بل بالأفعال.
وأنا… تأخرت كثيرًا في فعل ما كان يجب أن أفعله.
لكن هناك طفل في حياتي… اسمه ياسين.
علّمني أنني أملك فرصة ثانية."
الجميع صفق…
أما أنا…
فلم أصفق.
بل خفضت نظري… وابتسمت بصمت.
في تلك الليلة، جلست أمام المرآة بعد أن نام ياسين،
وسألت نفسي سؤالًا صعبًا:
"هل أستطيع أن أسامح؟
هل يمكن للجرح أن يتحول إلى دفء؟"
أجابتني صورة في رأسي…
حين كنت مرمية على درج المطر قبل ست سنوات…
وحيدة… منكسرة… حاملة طفلًا دون مستقبل.
ثم صورة اليوم…
أنا… واقفة، قوية، وابني بخير، ورجل يريد أن يكون أبًا له.
ربما لم أغفر تمامًا.
لكنني لست تلك الفتاة المكسورة بعد الآن.
وأنا أطفئ نور الغرفة، همست لنفسي:
"كمال…
ربما لا أكرهك بعد الآن…
لكن لا تظن أن الطريق إليّ سيكون سهلًا."
20تم تحديث
Comments