ظلال الياسمين
### **المشهد الأول: المدينة التي تبكي زجاجًا**
كان المطر يضرب نوافذ عيادة "ثُهمَد" كدموع غاضبة. في الخارج، كانت مدينة "الرُّمَّان" القديمة تُذوّق صباحها بالضباب وحكايات الشوارع المتعرجة التي لم تُحكَ بعد. الدكتورة ثُهمَد وقفت تمسح زجاج النافذة براحة يدها، تُراقب سيارة سوداء تتوقف أمام العيادة. باب السيارة انفتح، فظهرت حذاء رجاليّ مُهترئ يطحن فتات الزجاج تحت كعبه. **لُجين** خرج من السيارة كشبحٍ يبحث عن جسد.
> "هذا هو.. القاتل الذي أحيت أبوه أشباحه"، همست ثُهمَد لنفسها.
ملفّه كان على طاولتها منذ أيام: "لُجين سالم. 28 عامًا. تشخيص مبدئي: فصام بارانويدي، اكتئاب جسيم، ذكريات متطفلة. جريمة قتل الأم (مُرغم). تاريخ من الصدمات الكهربائية في مصحّات أبيه".
---
### **المشهد الثاني: العينان الزرقاوان.. مستنقعان من الذهول**
دخل لُجين الغرفة وكأنه يحمل جبالاً على ظهره. عيناه الزرقاوان ــ اللتان تشبهان بحيرتين متجمّدتين ــ التقتا بعينيّ ثُهمَد البنيتين. كانت مفارقة غريبة: عينا طبيب نفسي تختبئان أسرارهما، وعينا مريض تكشفان كل شيء دون كلمات.
> "أهلاً.. لُجين. أنا د. ثُهمَد. يمكنك الجلوس حيث تشعر بالراحة".
> لم يجب. اتكأ على الحائط وكأن الكرسي فخ.
ثُهمَد رصدت التفاصيل الأولى:
- **يداه** ترتجفان كعصفورين جريحين.
- **رائحة الياسمين** تفوح من ملابسه البالية (تناقض صارخ مع مظهره المشوّش).
- **ظلال تحت عينيه** أعمق من أي قبو.
> "لا أحب الأضواء"، قال فجأة بصوت أجشّ.
> "يمكننا إطفاء النيون. نكتفي بشمعة؟"
أومأ. في الضوء الخافت، بدا وجهه نحيلاً كسكين.
---
### **المشهد الثالث: رسومات القبو.. حيث تتحدث الأشباح**
أخرجت ثُهمَد دفترًا وألوانًا.
> "ارسم ما يجول في رأسك الآن".
بدأت ياه تخطّط خطوطاً فوضوية. لم يرسم وجوهاً.. بل **ظلالاً**:
- ظل امرأة تمسك ياقة رجل (الأب؟).
- زهور ياسمين تسقط من السقف كقطرات دم.
- باب قبو مُغلق بقفل ضخم.
> "من تكون هذه؟" سألت ثُهمَد تُشير لظل المرأة.
ارتجف. قلم الفحم انكسر بين أصابعه.
> "أمي.. أو شبحها. تزورني كل ليلة".
> "وماذا تقول؟"
> "تصرخ: *لماذا فعلتها؟*".
ثُمّ حدث شيء غريب: رسم فجأة **وجه ثُهمَد** وسط الظلال.
> "لماذا رسمتني هنا؟"
> "لأنكِ.. الوحيدة التي لا تنظر إليّ كوحش".
---
### **المشهد الرابع: الصرخة الخافتة.. التي لا يسمعها أحد**
جلسة الصمت كانت أثقل من الصراخ. فجأة، قبض لُجين على رأسه وكأن جمجمة تنفجر:
> "هل تسمعينها؟"
> "من؟"
> "أمي.. تصرخ في القبو".
ثُهمَد لم تسمع شيئاً سوى المطر. لكنها رأت عينيه تتسعان كبابين للمجهول. اقتربت منه ببطء، يدها الممدودة كجسر:
> "القبو بعيد.. أنت هنا معي. ألمس يدك؟"
لمسته. جسده ارتعش كحصان جريح. فجأة أمسك معصمها بقوة مرعبة:
> "لا تلمسي القفل!".
> "أي قفل؟"
> "قبو أمي.. إذا فُتح، سنختنق كلنا".
ثُهمَد لم تسحب يدها. تنفست بعمق:
> "لن نفتحه اليوم. لكن في يوم ما.. سنفتحه معًا".
---
### **المشهد الخامس: أول كذبة.. وأول حقيقة**
عند المغادرة، وقف لُجين عند الباب كالطفل الضال.
> "هل ستكونين هنا غدًا؟"
> "نعم. في نفس الوقت".
نظر إلى شاربها الأيسر (حيث خالٌ صغير تشبهه أمه).
> "أعدِيني.. أنكِ لن تختفي مثلها".
كان السؤال فخاً نفسياً. ثُهمَد عرفت أن كلمة "نعم" قد تتحول إلى هوس. لكن قالتها:
> "أعدك".
أثناء خروجه، لاحظت شيئاً مُريباً:
- على ذراعه اليسرى.. **ندوب دوائر** (مطابقة لندوب الصعق الكهربائي في ملفه).
وفي دفتر رسمه المنسي، وجدت جملة مكتوبة بحروف طفولية:
> *"أبي كان يصرخ: اقتلها! فظننتها لعبة"*.
---
### **كلمة النهاية:**
عندما أغلق الباب، اتكأت ثُهمَد على الحائط. رائحة الياسمين لا تزال عالقة في الغرفة كشاهد صامت. فتحت ملفه وكتبت بخطٍ مضطرب:
> **"ملاحظة الجلسة الأولى: ليس مجنوناً.. بل طفلاً عالقاً في جسد قاتل. الهلاوس حقيقية أكثر من ذاكرته. الخطر: قد يخلط بيني وبين الأم (أو العكس). العلاج: تفكيك القبو.. لكن المفتاح في يد شيطان".**
وفي الخارج، كان لُجين يُحدّق في نافذتها من زقاق مظلم. همس للريح:
> "ثُهمَد.. أسمكِ يشبه صوت مفتاح يدور في قفل".
--
9تم تحديث
Comments