صمت تحت الرماد

...━━━━━━━━━━...

...مرت ثلاثة أيام منذ نوبة إيدن الأخيرة....

...الممرّات كانت صامتة بشكل غير مألوف، وكأن المركز بأسره يحبس أنفاسه بعد العاصفة....

...إيما جلست في مكتبها، تحدّق في النوافذ دون أن تلاحظ مرور الوقت، لكنها شعرت بغياب شيء… أو ربما بشخصٍ يغيب عن رؤيتها....

...دخل إيدن الغرفة هذه المرة بخطوات هادئة، كما لو أنه يحاول أن يثبت لنفسه أنه قادر على السيطرة....

...لكن عينيه الداكنتين لم تكذبا: كانت هناك شرارات الغضب المدفون، والفضول الذي لا يهدأ، وتوقٌ للاقتراب منها رغم الحواجز....

...وقف على بعد مترين منها، وقال بصوت خافت لكنه يحمل تحديًا:...

..."لم أعد أصرخ....

...أتعلمين لماذا؟...

...لأن الصمت أحيانًا أكثر وحشية."...

...رفعت حاجبيها، نظراتها الثابتة كالسيوف:...

..."الصمت مفيد إذا كان هادئًا. أما إذا أصبح تهديدًا… فهو مجرد خوف منك."...

...ابتسم ابتسامة جانبية، خفّت ألوان الغضب عن وجهه لحظة، لكنه سرعان ما عاد للحدة:...

..."خوف؟ أم تقدير؟ أحيانًا لا أستطيع التمييز."...

...جلس مقابلها هذه المرة، مسترخيًا بشكل يبدو طبيعيًا، لكن كفه لم تتوقف عن النقر على الطاولة بعصبية خفية....

..."أرى في عينيك دائمًا شيئًا لم تُظهريه لأحد…...

...شيئًا يشبه… الفضول. أليس كذلك؟"...

...نظرت إليه مباشرة، غير متأثرة، محكمةً تحكمها المهنية...

..."إذا كان هناك فضول… فهو مهني، ليس شخصيًا."...

...ضحك ضحكة قصيرة، ساخرة...

..."مهني؟ كل شيء بيننا بدأ مهنيًا… ثم أصبح أكثر، أليس كذلك، إيما؟"...

...سكتت للحظة، وجدت نفسها تشعر بشدّ داخلي، وكأن كل كلمة منه تسحب شيئًا من توازنها....

...ثم قالت بصوت منخفض، محاولًة السيطرة على ارتعاش قلبها...

..."أنت تختبرني، وهذا غير مقبول."...

...نظر إليها بعمق، عيناه تقطر تحديًا وحنانًا مختلطين...

..."أختبرك؟ أم أختبر نفسي؟...

...أشعر أن كل شيء بداخلي ينهار عندما تكونين قريبة…...

...وأنا لا أستطيع كبحه."...

...صمت طويل استمر بينهما، وكان كمنطقة زمنية صغيرة، حيث لا يوجد سوى نظرات مشتعلة بالكبح والفضول والاعترافات الخفية....

...**...

...مرت ساعات الجلسة وكأنها دقائق....

...كل كلمة، كل حركة، كل صمت… كانت شحنة كهربائية بينهما....

...إيما حاولت الحفاظ على هيبتها، لكن لم تستطع تجاهل كيف أن توتره المكبوت جعله أكثر صدقًا وأكثر هشاشة....

...عندما غادر في النهاية، ترك الباب نصف مفتوح، ونظرة لم تنسحب عن وجهها…...

...نظرة تقول:...

..."أعلم أنك تشعرين بما أشعر… ولن تهربي من الحقيقة إلى الأبد."...

...جلست إيما في مكتبها بعد رحيله، تتنهد ببطء، ويدها ترتجف قليلاً....

...لم يكن خوفًا… بل إدراكًا مخيفًا: أن الشخص الذي يخيفها، ويستفزها، ويغضبها… صار يسكن قلبها بلا إذن....

...---...

...إيدن ...

...منذ دخولي مركز “هولبروك”، لم أشعر بهذا الوجع يكاد يقتلع قلبي من صدري....

...اليوم، لا أعرف إن كنت غاضبًا، أم يائسًا، أم مجرد رجل ضائع بين رغباته وعقله الممزق....

...رأيتها أمامي، جلست على مكتبها كما لو أن العالم لا يمكن أن يهتزّ إلا من خلال كلماتها وحدها....

...شعرت بصدمة: كل لحظة صمت منها، كل لمحة، كل ابتسامة خافتة… كانت تشعل نيرانًا بداخلي لم أعرف أن قلبي قادر عليها....

...كانت هناك فجوة بيننا، حائط من الصبر والمهنيّة… وحيدي من دونها يزداد ضيقًا كل ثانية....

...**...

...لم أستطع التحمل أكثر....

...ركضت نحو الباب، دفعت كل شيء أمامي، صوت الحديد يرتطم على الأرض كما لو أنني أطلق غضبي الخارجي على العالم....

...الكرسي قفز في الهواء، الزجاج المكسور يتناثر… ولكن لم أشعر بشيء سوى إحساس واحد: أنها هناك، أمامي، أرى تفاصيل وجهها بدقة الجنون....

...صرخت في داخلي:...

..."لماذا لا تفهمين؟ لماذا كل شيء حولك يظل هادئًا بينما قلبي ينهار؟"...

...اقتربت منها، شعرت بأنفاسها، برائحتها، بدفء وجودها الذي يقتلني ويهدئني في الوقت نفسه....

...رغبة في لمسها، في الإمساك بها، في أن تقول لي شيئًا، أي شيء… شيء يثبت أنها تعرف ما أشعر....

...لكنها، كما هي دائمًا، صمتت....

...صمتها يوجعني أكثر من أي صرخة....

...كان الغضب يغلي، كان الحزن يختنق في صدري، وكان كل شعور متضاربًا: رغبة، يأس، حنين، كره…...

...**...

...ارتفعت نبرتها فجأة:...

..."إيدن! كفّ عن هذه التصرفات الآن! أنا هنا كطبيبة، لا كإنسانة لتتلاعب بها!"...

...كأن كلماتها كانت سكينًا تغرز في صدري....

...لم أكن أتلاعب بها… لم أستطع التوقف عن شعوري بما يحدث داخلي....

...رغبة في أن أبكي أمامها، رغبة في أن أصرخ، رغبة في أن أكون صادقًا معها… كل شيء مختلط....

..."أعلم… أعلم أنني مخطئ…"...

...همست، لكنها لم تتراجع....

...كل حركة، كل كلمة منها كانت تحرك شيئًا عميقًا في روحي، شيئًا لم أرَه في نفسي من قبل....

...**...

...سقطت على الأرض، رأسي بين يدي، أنفاسي تتقطع، جسدي كله يرتجف....

...كنت أريد أن أصرخ، أن ألمسها، أن أملكها للحظة واحدة… شيء بسيط يثبت لي أن هناك من يفهمني....

...لكن في نفس اللحظة، شعرت بالعار… شعور الرجل الذي يكره ضعفه، الذي يخاف أن يرى الآخرون انهياره....

...نظرت إليها، ودمعة واحدة انحدرت من عينيّ، دون أن أستطيع إخفائها....

..."أنا… لا أستطيع… أحتاجك… لكني أخاف…"...

...لم تقترب، لم تبتعد… جلست صامتة، عينها مليئة بمزيج من الغضب والحزن، وكأنها تقول:...

..."أعرف كل شيء عنك، إيدن… لكن لا شيء يمكن أن يغيّرك إلا أنت."...

...**...

...في تلك اللحظة، أدركت شيئًا لم أكن أريده:...

...أن ضعفي أمامها لم يكن عيبًا… بل الحقيقة الوحيدة التي أملكها....

...أن رغبتي فيها، خوفِي، حزني، جنوني… كل شيء بدا واضحًا أمامها....

...وأنني مهما حاولت، لن أهرب من هذا الشعور، ولن أستطيع تجاهله....

...صوت قلبها كان أقوى من أي كلمات: صمتها وحده يقرع أذن روحي....

...وغادرت الغرفة دون أن تقول كلمة، تاركةً خلفها صدى إحساسي الذي لا أستطيع محوه، ولا أريد....

...**...

...━━━━━━━━━━...

...الأيام تمضي ببطء قاتل في مركز “هولبروك”، وكل ساعة تمرّ كانت كأنها تطحن نفسي إيدن أكثر وأكثر....

...منذ توقفه عن تعاطي المخدرات، أصبح جسده وعقله ساحة حرب، تتصارع فيها الرغبات مع الألم، والرجاء مع اليأس....

...في كل جلسة، كان يرى إيما، تلك الطبيبة التي صارت آخر خيط أمل له،...

...التي تمثل له شيئًا لم يستطع أن يسميه بعد: خلاص أم نعمة أم مجرد وهج عابر… لكنه يتشبث به كما يتشبث الغريق بقشة....

...**...

...جلس أمامها اليوم، عينيه المليئتين بالهالات السوداء، جسده مرتعش، ويداه لا تكاد تستقر....

...قال بصوت مبحوح:...

..."حاولت… حاولت أن أكون بخير… أن أتحكم… لكن كل شيء يعود إلى الصفر."...

...نظرت إليه إيما بعينين حزينتين، وهي تحاول كبح دموعها:...

..."إيدن… كل خطوة تقوم بها، مهما كانت صغيرة، لها قيمة. ليس عليك أن تكون كاملًا."...

...ضحك، ضحكة باردة، مجنونة، مليئة بالألم:...

..."قيمة؟! كل يوم أستيقظ وأرى نفسي بلا شيء… كل شيء ينهار داخلي. كل شيء، إيما… وأنتِ الوحيدة التي لم تهربت."...

...اقترب من حافة الكرسي، رأسه في يديه، تنهيدة طويلة خرجت من قلبه:...

..."كنتُ أظن أن وجودك يكفي لي… أن مجرد رؤيتك تجعلني أستمر… لكنني… لا أستطيع… لا أستطيع."...

...**...

...مرت دقائق صمت، ثقيلة، حيث شعرت إيما بكل وجع روحه، وكل صراعاته الداخلية، وكل الخوف الذي يخنقه....

...كانت ترى فيه كل شيء: القوة المتلاشية، الغضب المكتوم، الحزن الذي ينهشه من الداخل، الرغبة الجامحة في الهروب… لكن بلا أي وسيلة....

...إيدن رفع رأسه فجأة، عيناه الداكنتان تتوسلان شيئًا لا تستطيع الكلمات التعبير عنه:...

..."أنتِ آخر شيء أتمسك به… إذا لم تكوني هنا، ما كنت لأستمر… لكن حتى وجودك… لا يكفي أحيانًا."...

...تقدمت إليه ببطء، محاولةً أن تمدّ يدها، لكنه تراجع، ارتعش، صرخ بصوتٍ داخلي:...

..."ابتعدي… أنا لا أستحقك!"...

...لكن داخله كان يعرف الحقيقة: لم يكن يريدها أن تبتعد، كان يريد أن يُنقذ نفسه… ولم يستطع....

...**...

...مرت أيام… كل يوم كان أكثر صعوبة من سابقه....

...كل محاولة للسيطرة على الرغبة بالعودة إلى المخدرات كانت تنهار بعد ساعات....

...كل جلسة كانت كمعركة بينه وبين نفسه، وبينه وبين ما يراه في عيني إيما: أمل لم يكتمل، أمل يختبئ خلف الحذر....

...في إحدى الليالي، جلس على حافة سريره، رأسه في يديه، جسده يرتجف، قلبه يصرخ من الألم:...

..."أنا أعود… أعود لنقطة الصفر… كل شيء… كل شيء ينهار… لماذا لم أستطع أن أبقى؟"...

...دمعة واحدة انزلقت من عينه، كأنها تذكره بكل الفشل الذي عاشه، بكل الأوقات التي حاول فيها التمسك بالضوء، لكنه وجد نفسه دائمًا يغرق في الظلام....

...وفي اليوم التالي، جلس أمام إيما مرة أخرى، صامتًا، عيناه تقولان ما لا يستطيع فمه قوله:...

..."أنا لم أعد أستطيع… لم أعد قادرًا على الصراع… أنتِ آخر ما يبقيني على قيد الحياة، وإذا اختفيتِ… فلن أجد نفسي مرة أخرى."...

...**...

...━━━━━━━━━━...

...النهاية...

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon