...كانت الساعة تقترب من الثامنة صباحًا حين عمّ صخبٌ غير مألوف أروقة مركز “هولبروك”....
...صرخات، خطوات متلاحقة، وأصوات ارتطام تُسمع من بعيد....
...رفعت إيما رأسها عن تقاريرها، حدّقت في الباب المغلق أمامها، ثم خرجت مسرعة....
...في نهاية الممر، كان الحراس يلتفون حول الغرفة رقم (12)....
...صرخ أحدهم:...
..."لا تقتربوا! إنه في نوبة!"...
...اندفعت إيما بين الصفوف، تزيح الأيدي المرتبكة، وعيناها تبحثان عنه وسط الفوضى....
...كان إيدن يقف هناك، جسده مشدود كوترٍ على وشك الانفجار، عيناه مضطربتان، ويداه ترتجفان كما لو كان يحاول اقتلاع الألم من داخله....
...الكرسي مقلوب، والمرآة الصغيرة على الحائط تحطمت نصفين، وأحد الحراس ينزف من ذراعه بعد أن حاول تهدئته....
...قال بصوتٍ غليظٍ ومبحوح:...
..."أريدها الآن! لا يمكنكم حرماني منها هكذا!"...
..."إيدن!"...
...كان صوت إيما حادًّا بما يكفي ليجعله يلتفت....
...حين رآها، سكنت الصرخة في حلقه لحظةً، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، غريبة، خالية من الاتزان:...
..."جئتِ لتشاهدي العرض بنفسك، دكتورة؟"...
..."ابتعد عن الزجاج، إيدن."...
...قالت ذلك بخطوات ثابتة، لكن قلبها كان يخفق بسرعة مؤلمة....
...لم يكن هذا هو الرجل الذي قابلته في الجلسات السابقة. كان شيئًا آخر، حيوانًا جريحًا يبحث عن أنيابه....
..."ابتعد؟"...
...ضحك، ثم ركل الكرسي بقدمه، لتتناثر قطع الخشب في الأرض....
..."كلّكم تقولون الكلمة نفسها. ابتعد، هدّئ من نفسك، تنفّس! لكن أحدًا لم يقل لي يومًا: لماذا أشعر وكأن قلبي يتآكل؟"...
...تقدمت نحوه، وقالت بصوتٍ أكثر لينًا:...
..."أنت تمرّ بأعراض انسحاب، هذا طبيعي. كل ما يحدث الآن هو نتيجة نقص المواد في جسدك، وسيمرّ."...
...صرخ فجأة:...
..."لا تقولي سيمرّ! أنت لا تعرفين شيئًا عمّا في رأسي!"...
...اقترب منها حتى كاد وجهه يلامس وجهها، أنفاسه الساخنة تلهب الهواء بينهما....
..."هل جربتِ أن تصرخي ليلًا لأن عقلك لا يسكت؟ هل تعرفين كيف يبدو أن تفقدي نفسك، أن تشعري بأنك تذوبين ولا أحد يراك؟!"...
...ارتجف جفنها، لكنها بقيت واقفة، كأنها تحارب خوفها بكل ما تبقّى من احترافها....
..."إيدن، أنت لست وحدك. أنا هنا لأساعدك."...
...تأملها بصمتٍ عجيب، ثم قال ببطءٍ قاتم:...
..."أنتِ لا تساعدينني، إيما… أنتِ فقط تراقبين سقوطِي، وتكتبين عنه."...
...كان صوته منخفضًا، لكنه أعمق من الصراخ....
...شعرت بأن الأرض تبتلع المسافة بينهما....
...رفع يده فجأة نحو الحائط، وضربه بقوةٍ جعلت الدم يتناثر من قبضته....
...تراجعت خطوة، فمدّ ذراعه الأخرى وأمسك بمعصمها دون وعي، قبضته قاسية، لكنها لم تكن نية إيذاء… بل استغاثة....
...قال وهو يلهث:...
..."أريد أن أخرج من رأسي، إيما… فقط أخبريني كيف."...
...نظرت إلى عينيه المليئتين بالجنون والدمع، ورأت داخله شيئًا لم يره أحد من قبل:...
...خوف طفلٍ تاه طويلًا في الظلام....
...بصوتٍ خافتٍ أقرب إلى الهمس، قالت:...
..."ابدأ بأن تثق بي."...
...لم يتحرك....
...ثم، ببطءٍ مؤلم، أفلت يدها، وانزوى إلى زاوية الغرفة، يجلس على الأرض، رأسه بين ركبتيه، يتنفس بعنفٍ كمن يختنق من داخله....
...**...
...بعد دقائق، جاء الطاقم الطبي وحُقن بمهدّئٍ خفيف، بينما بقيت إيما تراقبه بصمت....
...لم تقل شيئًا، لكنها شعرت بارتعاشة في يديها لم تعرف لها تفسيرًا....
...وحين غادر الجميع، اقتربت منه بحذرٍ شديد....
...كان ممددًا على الأرض، بين وعيٍ ونوم....
...قال بصوتٍ بالكاد يُسمع:...
..."ستكتبين هذا في تقريرك أيضًا، أليس كذلك؟ نوبة أخرى، مريض صعب، قابل للانفجار."...
...همست:...
..."لن أكتب شيئًا… ليس الليلة."...
...رفع نظره إليها، شاردًا، بنظرةٍ ملأى بالأسئلة....
..."لماذا لا تهربين مثلهم؟"...
...ترددت، ثم أجابت بعد صمتٍ طويل:...
..."لأن في عينيك وجعًا يقيدني."...
...لم يعلّق، لكن دمعة وحيدة انحدرت من عينه وهو يغفو ببطء....
...**...
...ذلك المساء، جلست إيما في مكتبها، تحدّق بيديها المرتجفتين....
...لم تكن تخاف منه… بل من نفسها....
...من الشعور الغريب الذي بدأ يثقب جدارها شيئًا فشيئًا....
...ذلك الرجل الذي ينهار أمامها كل يوم، صار يسكن تفكيرها بلا إذن....
...وصوت صرخته في الغرفة رقم (12) ظلّ يطاردها كجرحٍ مفتوح:...
..."أريد أن أخرج من رأسي، إيما… فقط أخبريني كيف."...
...━━━━━━━━━━...
...النهاية...
Comments