...جلست آريا على حافة السرير، في الغرفة البيضاء المملّة التي حجزتها منذ بداية المؤتمر....
...الستائر شبه مغلقة، والهواء يعبُر المكيف بلا روح....
...كأنّ المكان لا يعكس شيئًا منها....
...على الطاولة، كان هاتفها يضيء باسم المقطع الصوتي المسجّل:...
..."KI-01"...
...ضغطت "تشغيل" مرة أخرى....
...صوته. كيليان. بارد، متماسك، لا يرفع صوته ولا يخفضه... كل جملة وكأنها مقيّدة بوزن محسوب....
..."هل كنتِ تحاولين تحليل خطواتي؟"...
..."بل كنت ألاحظ..."...
..."جميل. إذاً سأسهّل عليك الأمر. اسمي كيليان."...
..."وأنتِ؟"...
..."آريا."...
...أغلقت الهاتف....
...نظرت إلى المرآة أمامها، لم تكن تراقب ملامحها... بل نظرتها....
...النظرة التي تغيّرت مرتين اليوم: مرة حين قابلته، ومرة حين ظهرت صديقتها....
..."هل أُفرِط في التقمّص؟...
...لماذا أشعر أنني لم أكن أنا حين تحدثت معه؟...
...ولماذا... شعرت أنني لم أكن وحدي من يرتدي قناعًا؟"...
...نهضت، أخرجت دفترها، قلبت الصفحات إلى قسم كانت قد خصصته منذ مدة، عنوانه بخطٍ رقيق:...
..."أنماط التسلل السلوكي"...
...كتبت تحته:...
...(&) كيليان:...
...يطرح أسئلة توجيهية ذات طابع شخصي مموّه....
...يعيد صياغة الجملة بطريقة تُظهر الضعف أو التشكيك....
...لا يُكمل رأيه، بل يدفع الطرف الآخر لإكماله....
...يتحكّم بإيقاع الحديث دون أن يبدو كمن يقوده....
...لا يُقاطع، لكنه يزرع ثقلًا في الصمت بعد كل جملة....
...توقفت....
...نظرت إلى الورقة، وتذكّرت شيئًا آخر....
...مدّت يدها إلى حقيبتها، أخرجت بطاقة البرنامج الرسمي للمؤتمر. نظرت إلى أسماء المحاضرين... لا أثر لاسم كيليان....
...ولا حتى ضمن قائمة الحضور....
..."فإذا لم يكن مشاركًا، ولا مسجّلًا......
...فمن أنت؟"...
...وضعت البطاقة جانبًا، واتجهت إلى نافذة الغرفة، فتحتها قليلًا... كان الليل ساكنًا، والضباب يعلو على نهرٍ لا يُرى من بعيد....
...همست:...
...— "غدًا... أبدأ أنا."...
...•••••••••••••••...
...صباح اليوم التالي...
...قاعة الندوة التالية كانت صغيرة. نصف الدرجات خالية، والباقي موزّع على باحثين شباب وشخصيات أكاديمية بارزة....
...آريا جلست في المقعد الأخير، لكن هذه المرة، لم تكن تراقب الجميع....
...كانت تترقّب شخصًا واحدًا....
...تمرّ الدقائق والساعات، ولم تلاحظ لحظة واحدة مضت....
...تلتها الأيام، ثم الأسابيع، ولم تلتقِ به بعد ذلك اللقاء الأول....
...كان الشيء الوحيد الذي تبقّى لها منه... هو مسجّل الصوت....
...وذلك الوجه الذي حفرته ذاكرتها بدقّة، لا لأن ملامحه كانت فريدة بشكل صادم، بل لأن حضوره كان طاغيًا، مشبعًا بالمعنى....
...انقضت أسابيع المؤتمر الأخيرة، فعادت آريا إلى روتينها المعتاد، إلى مكتبها في معهد البحوث السلوكية في برلين، حيث لا يكفّ التحليل عن التدفق، ولا يستطيع عقلها مجاراة تدافع الأفكار....
...لكنها، رغم كل الانشغال، لم تمرّ بيوم دون أن تُعيد الاستماع إلى تلك الدقيقة والنصف من صوته....
...كان صوته ينبثق من الذاكرة كلّما واجهت حالة تحليل معقّدة، أو غموضًا في تقرير، أو حتى أثناء صمت المصعد وهي وحدها...
...مرّت ثلاثة أشهر....
...وفي إحدى الليالي، كانت تقف وسط ضجيج حفلة مزدحمة، حضرتها مرغمَة بضغط من صديقتها التي أقسمت أن "الحبّ" قد يظهر فجأة بين الموسيقى والأنوار....
...وهناك... لمحته....
...كان جالسًا وحده في الزاوية، يحمل كأسًا مملوءًا بشيء داكن، ينظر نحو أولئك الذين بدأوا بالرقص... ومن بينهم كانت هي....
...تقدّمت نحوه بخطى غير محسوبة، واقتربت حتى وقفت أمامه مباشرة....
...رفع نظره من الأسفل إلى الأعلى، رأى فستانها الأبيض الذي يحتضن خصرها، شعرها الأسود الذي ينسدل حتى كتفيها، وعينيها الخضراوين الواسعتين....
...إنها هي... آريا....
...لم تنطق بكلمة. بقيت واقفة تتأمّل ملامحه، تلك التي لم تفارق خيالها: شعرٌ بني تغزوه بعض خيوط الشيب، وعيونٌ زرقاء عميقة....
...كان يبدو وكأنه خرج من مشهد سينمائي لا من واقعٍ يُعاش....
...قطع الصمت بينهما بنبرة مرحة خفيفة:...
..."هل تراقبينني يا صغيرة؟"...
Comments