قبّل اللهب

قبّل اللهب

الفصل الأول: الغريب في الردهة

...القاعة تفيض بأحاديثٍ متشابكة، بعضُها علميّ، وبعضُها مُجرّد مُجاملات....

...نهضت آريا من كرسيّها في الزاوية الخلفيّة للمدرّج، أغلقت سترتها الرمادية بإحكام، وأمسكت دفتراً صغيرًا بيدها. نُدوة "السلوك الانعكاسي تحت الضغط" انتهت منذ دقائق، لكنها لم تكن تستمع بقدر ما كانت تُراقب....

...لم تكن تحبّ المؤتمرات. لكنها جاءت إلى كوبنهاغن بحثًا عن إجابةٍ عالقة في ذهنها منذ شهور:...

...هل يمكن لنمط السلوك أن يكشف النوايا العميقة، حتى في أكثر الناس احترافًا بالإخفاء؟...

...بينما تعبر الردهة باتجاه طاولة القهوة، وقعت عيناها عليه....

...رجل في الأربعين على الأرجح، يجلس وحده على أريكة جلدية، غير مهتمٍ بالنشرات، لا يطالع الهاتف، ولا يتبادل الحديث....

...لم يكن يرتدي بطاقة تعريف كغيره، ولا يضع دفتر ملاحظات. فقط ينظر....

...نظراته لا تائهة ولا محددة، بل كأنها تمسح المكان ببطء علمي....

...توقفت لحظة. التفت فجأة نحوها، وكأنه شعر بوجودها قبل أن تقترب....

...ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة ترحيب، بل أشبه بابتسامة شخص يعرف شيئًا لا يعرفه الآخر....

...قال بصوت منخفض وبنبرة لا تعكس ودًا ولا عداء:...

..."هل كنتِ تحاولين تحليل خطواتي؟"...

...تفاجأت. لم تكن قد فتحت فمها....

...أجابت، وهي تُعدل خصلةً سقطت من وشاحها:...

..."بل كنت ألاحظ... وهذا ليس ممنوعًا في مؤتمرات السلوك، أليس كذلك؟"...

...رفع حاجبًا واحدًا، ثم حرّك يده نحو المقعد المقابل....

...جلست دون أن تدرك إن كانت هي من قررت ذلك، أم أنه هو من دفعها بطريقة ما....

...سألته:...

..."لم أرَ اسمك في الجلسات. هل حضرت اليوم فقط؟"...

..."لا، حضرت منذ الأمس. لكنني لا أشارك كثيرًا... أفضّل المراقبة."...

..."أستاذ؟ باحث؟ طبيب؟"...

...ابتسم مجددًا، بنفس الغموض:...

..."مهتمٌ بالسلوك البشري... من موقع مختلف قليلاً."...

...أخرجت قلمها، ودوّنت سطرًا في الدفتر، وهو لا يزال يراقبها بعينين ثابتتين:...

..."لا يستخدم الألقاب. لا يحدد مجاله. يجيب بعموميات. حركة الأكتاف ضئيلة. إشارات التحكم عالية."...

...سألها فجأة، كأنّه قرأ ما كتبت:...

..."وهل تجيدين الحكم على الناس من ملاحظة واحدة؟"...

...أجابت بثقة هادئة:...

..."أحيانًا... الملاحظة الأولى أكثر صدقًا من الثانية."...

...ضحك بخفّة، وقال:...

..."جميل. إذاً سأسهّل عليك الأمر. اسمي كيليان."...

...صمت....

..."وأنتِ؟"...

..."آريا."...

...قال الاسم ببطء، وكأنه يتذوق نغمه....

...ثم تابع:...

..."هل تؤمنين بأن السلوك يُخفي أكثر مما يُظهر؟"...

...أجابت بلهجة حذرة:...

..."أؤمن أنه لا شيء يظهر بلا سبب."...

...أمال رأسه قليلاً، وقال:...

..."إذًا... لن يكون لقاؤنا بلا سبب، يا آريا."...

...•••••••••••••...

...صمت كلانا فجأة ...

...لم تكن نبرته عدائية، لكنها لم تكن حيادية أيضًا....

...كان وكأنّه يُجري مقابلة توظيف... لكنها لا تعرف لأي منصب....

...بدات تكتب في دفتر ملاحظاتها:...

..."شخصية لا تُظهر توترًا. يخلق أسئلة لا يجيب عنها....

...لغه جسده متزنة، لكنه يتحرك حين أبدأ بالكلام... ...

...كأنّه يختبر إيقاعي....

...هل يعمل في مجال تحليل السلوك؟ أم في... توجيهه؟...

...ثم: لماذا شعرتُ أنني أنا من خُضعت للتحليل؟"...

...كان كيليان ما يزال يراقبها حين انقطع الصمت بوصول امرأة أخرى، ذات شعر كستنائي مرفوع بطريقة عفوية، وتضع نظارة شمسية على رأسها رغم أن الداخل لا شمس فيه....

..."آريا! كنت أبحث عنك، تأخرتِ كثيرًا!"...

...قالت الصديقة بنبرة عالية، دفعت ببعض الرؤوس إلى الالتفات....

...رفعت آريا عينيها نحوها، وابتسمت فجأة... ابتسامة لم تكن موجودة منذ دقائق....

..."كنت أراجع الملاحظات، تعرفينني."...

...وقفت، وضعت القلم في جيب سترتها، وبدت كأنها تغيّرت... لا توتر، لا عيون تحلل، لا نظرات تزن النوايا....

...فجأة، أصبحت فتاة عادية، عفوية، تشبه عمرها....

...استدارت نحو كيليان بسرعة وقالت بصوت يحمل دفئًا مهذبًا:...

..."سُعدت بالحديث... كيليان، صحيح؟"...

...أومأ برأسه دون أن يبتسم. عيناه لم تفارقا ذلك التحوّل الغريب الذي شهده للتو....

...من دقيقة كانت كعالِمة تزن العالم بميزان، والآن أصبحت شابة عادية تنادي صديقتها وتضحك بهدوء....

...همست الصديقة في أذنها وهما تمشيان مبتعدتين:...

..."من هذا؟ كان يحدّق بكِ وكأنه يكتب سيرتك الذاتية!"...

...ضحكت آريا، لكنها لم تُجب....

...حين وصلت مع صديقتها إلى نهاية الردهة، التفتت....

...كيليان كان ما يزال جالسًا، لم يتحرك، ولم يُبعد نظره عنها....

...وفي داخله... كان يكتب ملاحظاته هو الآخر....

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon