كانت هايسو تمشي ببطء في الطريق المبتلّ بعد المطر، أحذيتها تُحدث أصواتًا خفيفة مع كل خطوة. لم يكن في يدها مظلة، ومع ذلك لم تهتم. خصلات شعرها التصقت بخدّيها، والريح الباردة لامست عنقها كأنها تذكّرها بأنها ما زالت هنا، ما زالت قادرة على الشعور.
كانت تفكر في لقائها مع تاهي، في كلماته الهادئة التي اخترقت جدارها السميك دون إذن. شيء ما في تلك اللحظة حفر أثره عميقًا داخلها. لم تكن تحب التورط في العلاقات مجددًا، لكن قلبها — رغم كل ما قاسته — بدا كأنه استيقظ بعد نومٍ طويل.
في السماء، انقشعت الغيوم قليلًا، وبدأت أشعة الشمس تتسلل لتنعكس على قطرات الماء المعلقة على أوراق الأشجار. كان المنظر يشبه وعدًا هادئًا بعد العاصفة.
توقفت هايسو عند زاوية الشارع، رفعت رأسها نحو الضوء لاهفة لشيء ملفت للنظر إلىه وشعرت للحظة أن كل ما مرّ بها لم يكن إلا مقدمة لما سيأتي. لكن عقلها سرعان ما وبّخها: “لا تتعلقي… لا تنخدعي بالهدوء، فالعاصفة الثانية قد تكون أقسى.”
رنت نغمة هاتفها فجأة فقطعت حبل أفكارها.
على الشاشة ظهر اسمٌ لم تتوقعه — “الأستاذ كيم”، مدير العمل القديم الذي كانت تتجنّب الرد عليه منذ استقالتها.
ترددت لوهلة، ثم ضغطت زر الإجابة.
— “هايسو؟ لقد مر وقت طويل.”
صوته بدا متعبًا، كأنه يحمل سنوات من الهم.
— “أجل… اعتذر، كنت بحاجة لبعض الوقت.”
— “أعلم، لكننا بحاجة إليك في المشروع الجديد. أنت الوحيدة التي تعرف تفاصيل التصميم الأول.”
صمتت، تنظر إلى قطرات الماء المتجمعة على يدها. العمل الذي تتحدث عنه كان السبب في انهيارها، المشروع الذي دُمّر كل شيء بعده — علاقتها بزملائها، ثقتها بنفسها، وحتى توازنها الداخلي.
— “سأفكر بالأمر.” قالت بصوت خافت.
— “فكّري جيدًا، لن تجدينا غدًا إن رفضتِ.” ثم أنهى المكالمة.
أغلقت الهاتف ببطء، أنفاسها بدأت تضطرب. شعرت وكأن كل ما حاولت الهروب منه يعود فجأة ليقف أمامها.
كانت هذه المرة الأولى منذ أشهر يُطلب منها مواجهة ماضيها.
لم تدرِ إن كانت قادرة على ذلك، لكن بداخلها شيء صغير تمرد وقال: “ربما هذه فرصتك الأخيرة لتثبتي لنفسك أنك ما زلتِ قادرة.”
استندت على سور حجري قريب، والسماء فوقها بدأت تتلون بلون الغروب — مزيج من البرتقالي والرمادي.
كان المشهد جميلًا بطريقةٍ حزينة، تمامًا مثلها.
تذكرت تاهي، كلماته عندما قال:
“لا يمكننا الهروب من الأشياء التي شكلتنا، لكن يمكننا أن نعود إليها بقلوبٍ أقوى.”
ابتسمت بخفة، ثم فتحت مذكرتها التي كانت تحتفظ بها دائمًا في حقيبتها. كتبت بخطٍّ مرتجف:
“اليوم، بعد كل شيء، أشعر أني مستعدة لأبدأ من جديد… حتى لو كان الطريق مؤلمًا.”
رفعت رأسها، والمارة من حولها بدؤوا يتناقصون. أصوات السيارات أصبحت بالفعل بعيدة، وكأنها تفقد السمع شيئا ف شيء والمدينة تغرق في ألوان المساء.
الضباب حالك الرؤية معدومة من قبل ولاكن الضباب ساهم في ذلك ايضاً ، سارت ببطء نحو محطة الحافلات، وشعور غريب يتملّكها — مزيج من الخوف والفضول والحنين. كانت تعلم أن غدًا سيجلب شيئًا مختلفًا، ربما جيدًا، وربما لا، لكنها على الأقل لم تعد تخاف من المواجهة.
جلست على المقعد البارد، وضمت معطفها حول جسدها. في الزجاج المقابل انعكست صورتها — لم تعد الفتاة التي كانت تهرب من ظلّها، بل امرأة تحاول أن تواجهه بابتسامة خفيفة، مهما كانت بالفعل واهية.
أغمضت عينيها للحظة، والريح تمرّ على وجهها برفق.
في داخلها، سمعَت صوتًا خافتًا يشبه الهمس يقول:
“ابدئي من هنا… هذه المرة، لن تسقطي.
Comments