كانت شمس العصر تتسلل من بين الغيوم بخيوطٍ باهتة، تلوّن الشوارع الرمادية بلونٍ ذهبيّ خافت. في المقهى الصغير عند زاوية الحي، جلست هايسو أمام النافذة، تراقب المارة بصمتٍ متأمل. فنجان القهوة أمامها لم يُمسّ بعد، بخاره يتلاشى ببطءٍ كما تتلاشى أفكارها المتعبة. كان المقهى مزدحمًا بعض الشيء، أصوات الكراسي والضحكات تملأ المكان، لكنها كانت كمن يعيش داخل فقاعةٍ زجاجية لا يصلها شيء.
منذ أيامٍ قليلة التقت بـ تاهي، اللقاء الذي لم تتوقعه، ومع ذلك ترك أثرًا في روحها أكثر مما أرادت الاعتراف به. حاولت أن تقنع نفسها أن الأمر مجرد صدفة، وأن حياتها لن تتغير بسبب زيارةٍ قصيرة، لكن قلبها لم يصدقها. كانت تتذكر نظرته، كلماته البسيطة، وصوته الهادئ الذي كسر جدارها السميك دون جهد.
رفعت يدها ومرّرت أصابعها على كوب القهوة، تتلمس حرارته. في الخارج، كانت قطرات المطر الخفيفة ما تزال تطرق الزجاج برقةٍ مألوفة. بدا المشهد مزيجًا من الهدوء والحزن، تمامًا مثلها. تنفست بعمق، ثم سمعت الباب يُفتح وصوتًا مألوفًا يقول باسمها.
— “هايسو.”
رفعت رأسها بسرعة، لتراه واقفًا عند المدخل — تاهي، بابتسامته الهادئة ومعطفه المبتل. اقترب بخطواتٍ مترددة حتى وقف أمام طاولتها.
— “هل يمكنني الجلوس؟”
أومأت دون أن تنطق، ووجدت نفسها تبتسم رغمًا عنها. جلس قبالتها، طلب كوبًا من القهوة، ثم التفت إليها وقال بلطف:
— “كنت مارًّا من هنا، ورأيتك من الزجاج. يبدو أن هذا المكان ما زال ملجأك المفضل.”
ضحكت بخفوتٍ وهي تقول:
— “لم يتغير كثيرًا، مثلي تمامًا.”
— “بل تغيّرتِ، فقط لا تلاحظين.”
توقفت لحظة عند كلماته. كانت تشعر بأنها بالفعل تغيّرت، لكنها لم تكن تدري هل إلى الأفضل أم الأسوأ. بقيت تحدق في البخار المتصاعد من فنجانها وكأنها تبحث فيه عن إجابة.
تاهي، بدوره، كان يراقبها بصمتٍ يفهم أكثر مما يقول. ملامحها الهادئة تخفي في داخلها عاصفة، لكنه لم يشأ أن يسأل. أحيانًا، الصمت هو الطريقة الوحيدة لمساندة من تألم طويلًا.
تحدثا بعدها عن أشياءٍ بسيطة — الجامعة القديمة، الزملاء، وأين أصبح كلٌّ منهم الآن. ومع كل جملةٍ عابرة، كان الحزن في قلبها يلين قليلًا. في لحظةٍ ما، حكى لها تاهي عن فشله في عملٍ سابق وكيف بدأ من جديد، فضحكت بصدقٍ لأول مرة منذ أسابيع. كانت ضحكتها خفيفة، لكنها بدت له كأجمل ما في المكان.
توقفت عن الضحك عندما رأت انعكاس وجهها في زجاج النافذة — ملامحها المرهقة لم تختفِ، لكن هناك شيئًا جديدًا يلمع في عينيها، بريق خفيف يشبه النجاة. أدركت فجأة أنها لم تتحدث بهذا الارتياح منذ زمنٍ بعيد، وأن وجود تاهي جعلها تشعر بأن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن في داخلها قدرةً على الابتسام مهما انكسر قلبها.
رفع هو فنجانه وقال مبتسمًا:
— “إلى الأيام التي ما زالت قادمة.”
ابتسمت بدورها، ورفعت فنجانها لتصطدم به بخفة.
— “وإلى أول يومٍ لا نبكي فيه على الماضي.”
ساد بينهما صمتٌ دافئ، ليس صمت الحزن هذه المرة، بل صمت الارتياح. خلف الزجاج، كان المطر يخفّ تدريجيًا، والسماء بدأت تستعيد لونها الأزرق.
عندما خرجا من المقهى، كانت الشوارع تلمع ببقايا المطر، والهواء يحمل رائحة الأرض المبللة التي يحبها الجميع بعد العاصفة. مشيا بجانب بعضهما دون تخطيط، خطواتٍ بطيئة ومتناغمة. لم يكن هناك ما يُقال، لكن كل شيء كان مفهومًا.
في تلك اللحظة، أدركت هايسو أن التعافي لا يأتي فجأة، بل يبدأ بخطوةٍ صغيرة، بابتسامةٍ، أو بلقاءٍ غير متوقعٍ مثل هذا. رفعت رأسها نحو السماء المشرقة بخجل الشمس، وأغمضت عينيها للحظة. في صدرها، حيث كان الألم يسكن، وُلد إحساس جديد: الأمل، هشّ لكنه حقيقي.
وللمرة الأولى منذ وقتٍ طويل، شعرت أن قلبها لم يعد يبكي، بل يتنفس .
Comments