كان الصباح رماديًّا، والسماء غارقة في ضبابٍ خفيف يجعل الأشياء تبدو أبعد مما هي عليه. استيقظت هايسو على صوت قطرات المطر التي ما زالت تتساقط منذ الليلة الماضية، تنقر على زجاج النافذة كأنها تذكّرها بأن الحزن لا يرحل بين ليلةٍ وضحاها. جلست على السرير، كتفاها مثقلان، وشعرها الفوضوي يلتصق بجبينها من أثر الدموع التي لم تجف بعد.
حدقت للحظة في سقف الغرفة، ثم أطلقت تنهيدة طويلة. لم تكن تدري هل تشعر بالتعب من السهر، أم من نفسها. تمددت قليلاً قبل أن تنهض بترددٍ إلى المطبخ. الأرضية الخشبية باردة تحت قدميها الحافيتين، والهواء مائلٌ إلى الرطوبة، كأن المطر تسلل إلى الداخل. وضعت غلاية الماء على النار، وبدأت تُعد قهوتها بهدوءٍ متوتر، في محاولةٍ لإيهام نفسها أن يومًا جديدًا يعني بداية جديدة.
لكن قبل أن ترفع الكوب إلى شفتيها، دوّى طرقٌ خفيف على الباب. تجمّدت. لم تكن تنتظر أحدًا. وضعت الكوب على الطاولة بحذر، ثم اقتربت ببطء. قلبها بدأ ينبض بقوة غريبة، ليس خوفًا تمامًا، بل قلقًا مجهول السبب.
فتحت الباب، وإذا بوجهٍ مألوفٍ يقف هناك — تاهي.
تاهى، زميلها في الجامعة، الذي اختفى من حياتها منذ ثلاث سنواتٍ بلا وداعٍ واضح. بدا مختلفًا بعض الشيء؛ شعره أقصر، ملامحه أكثر هدوءًا، ونظراته أكثر دفئًا. لكنه ما زال يملك تلك الابتسامة التي تُشعرها بالأمان.
— “هايسو؟ ظننت أني أخطأت العنوان.”
رفعت حاجبيها بدهشة خفيفة، وصوتها خرج متردّدًا:
— “تاهي؟ ماذا تفعل هنا؟”
ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يرفع في يده كيسًا من المخبز القريب.
— “كنت مارًّا من الحي، ورأيت الضوء في نافذتك. تذكّرت أنك كنتِ تحبين الخبز الطازج في الصباح.”
شعرت للحظة بأن الزمن انكمش إلى تلك الأيام القديمة، حين كانا يدرسان معًا ويضحكان على أشياءٍ تافهة. لكنها تذكّرت سريعًا المسافة التي صنعتها السنوات، والانكسار الذي لا يعرفه هو.
فتحت الباب قليلًا وقالت بخفوت:
— “تفضل بالدخول.”
كانت الغرفة بسيطة، بها فوضى تدل على أنها لم تجد طاقتها لترتيب شيء منذ فترة. جلس على الكرسي الخشبي قرب النافذة، وأخرج كوبين من القهوة الجاهزة من الكيس. كانت رائحة القهوة تعبق في الجو وتمنح الدفء الذي افتقدته منذ أيام. جلست مقابله، متوترة، تحاول إخفاء التعب في ملامحها.
مرّت لحظات من الصمت، ثم قال بصوتٍ منخفض:
— “هل أنتِ بخير؟”
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكنها كانت أقرب إلى الاعتراف بالهزيمة.
— “أحاول أن أكون بخير.”
نظر إليها بعينين تحملان صدقًا نادرًا، وقال:
— “لا بأس إن لم تكوني بخير. ليس المطلوب أن تتظاهري.”
هزّت رأسها، وبدأت تلتقط أنفاسها ببطءٍ، كأن كلماته أعطتها إذنًا لتضعف.
صوت المطر في الخارج صار أخف، لكن في داخلها كان ما زال يهطل. حكت له عن يومها، عن وحدتها، وعن العمل الذي لم تعد تجد فيه معنى. لم تذكر الخيانة، لكنها لم تكن بحاجة لذلك — فقد قرأها في عينيها.
ثم قال بابتسامةٍ حانية:
— “تعلمين، كنت أراكِ دائمًا الأقوى بيننا في الجامعة. لا بأس أن تتعبي الآن، المهم ألا تبقي هناك للأبد.”
تأملته طويلًا. في عينيه لمحت ضوءًا خافتًا يشبه بداية فجرٍ بعد عاصفة. شعرت أن وجوده في هذا الوقت لم يكن صدفة، وكأن القدر اختاره ليكون ذلك الصوت الهادئ في منتصف ضجيجها.
رفعت كوب القهوة وقالت:
— “شكرًا لأنك جئت… لم أكن أحتاج نصيحة بقدر ما كنت أحتاج حضورًا.”
ابتسم وقال بخفة:
— “حين يكون الحضور صادقًا، يغني عن ألف كلمة.”
عندما غادر بعد ساعة، ترك خلفه صمتًا مختلفًا — ليس صمت الوحدة، بل صمتًا دافئًا كأن القلب بدأ يلتقط أنفاسه من جديد. نظرت إلى الباب بعد أن أغلقته، وابتسمت ابتسامة صغيرة لم تعرفها منذ زمن. ربما لم يتغير العالم، لكن شيئًا صغيرًا فيها بدأ يتحرك نحو الضوء
Comments