كانت الغرفة البيضاء تنبض بالحياة، ضوء الشمس يتسلل من النوافذ الكبيرة، يلامس الملفات والدفاتر المبعثرة على الطاولة الطويلة التي التفّ حولها المترجمون.
جلست رهف بين زملائها في مركز الترجمة، يعلو وجهها هدوءٌ خفيف، بينما عيناها تتأملان الوجوه المألوفة... حتى دخل المدير بابتسامته المعتادة.
ألقى سلام بلطف ثم بدأ بالحديث: "أعلم أنكم انتظرتم هذا الاجتماع طويلاً،" قالها بنبرة حيوية وهو يضع رزمة من الملفات على الطاولة، ثم أضاف بنبرة مشجعة:
"كل واحد منكم سيحصل على رواية جديدة لترجمتها، وهناك تنوّع كبير هذا الشهر."
تقدّم خطوة، وبدأ يوزع الملفات تباعًا إلى أن وصل عند رهف، فابتسم وقال:
"رهف… هذه المرة ستكون رواية رعب."
شعرت فجأة بشيء يهبط في صدرها. لم تكن من محبّي هذا النوع من الأدب، بل كانت تخشاه حتى كقارئة، لكنها لم تنبس بكلمة… إلى أن جاء صوته، هادئًا، لبقًا يحمل في نبرته دفئًا مفاجئًا.
"أستاذ،" قال يزن وهو ينظر إلى المدير، ثم حوّل نظره إلى رهف مباشرة، عينيه البنيتين تلمعان بلطفٍ لا يوصف
"رهف لا تحب روايات الرعب… دعني أتولى هذه الرواية وسأعطيها روايتي."
تسارعت أنفاسها لا من المفاجأة، بل من تلك النظرة العابرة التي علّقت روحها بلحظة واحدة، نظرة لم تحمل سوى بساطة، لكنها دخلت عمقًا عجزت عن تسميته.
يزن عبد الوهاب…
شاب في الثامنة والعشرين من عمره، طويل، جذاب بطريقة هادئة لا تصرخ لكنها تخطف، له بنية رياضية توحي بالقوة دون استعراض،
وغمازة تظهر فقط في خدّه الأيسر كلما ابتسم بخفة، فتُربك من حوله دون قصد، صوته ناعم غير متكلف كأنه يهمس حتى وهو يتكلم بوضوح.
ولم تملك إلا أن تُحدّق به للحظات، وقد اجتاحها مزيج من الامتنان والارتباك، قبل أن تعود بعينيها إلى الملفات أمامها ضحك المدير ضحكة قصيرة وقال بمزاح وهو ينظر إلى رهف:
"إلى متى ستظلين تخافين من قصص الأشباح؟
لم تُجب… كانت لا تزال تحت تأثير ما قاله يزن، بل ما لم يقله صراحة، هو لم يتصرف بنيّة التقرّب، لكنها شعرت أن تلك الحركة لطيفة منه اتجاهها، لكنها زرعت فيها شيئًا ناعمًا، لطيفًا، لا يُنسى.
"حسنًا" تابع المدير، وهو يضع الرواية الجديدة أمام يزن،
"لكن رهف ستساعدك في الترجمة هذه المرة حتى تتعلم كيف تتعامل مع هذا النوع، فلا أعذار في المرات القادمة."
ضحك يزن برقة، وقال وهو يوجه كلامه إلى رهف:
"سأحميك من الأشباح وغمز لها بعينه اليسرى."
ضحكت رغمًا عنها… بصوت خافت كأنها تعتذر عن طفولتها، لكنه لم يكن يضحك عليها، بل يبتسم لها.
وتلك التفاصيل الصغيرة بالنسبة لها لم تكن عابرة أبدًا.
عادت رهف إلى مكتبها بخفة من يحمل بين يديه وردة لا يريد لها أن تذبل، جلست على كرسيها وأسندت ظهرها برفق، ثم ضحكت بصوت خافت وهي لا تزال تشعر بذلك الدفء الطفيف في أعماقها.
لم يكن ما حدث في قاعة الاجتماع شيئًا عظيمًا، لكن بالنسبة لها، كانت لمسة خفيفة على قلبها.
أخرجت هاتفها من حقيبتها بسرعة، وفتحت جهة الاتصال المحفوظة باسم "يوسف"، وضغطت زر الاتصال، رنّ الهاتف لثوانٍ ثم جاء صوته عميقًا معتادًا يحمله دفءٌ لم تكن تجهله:
"رهف؟"
"يوسف!" نطقت باسمه وكأنها تهمس بسرٍ، ثم تابعت بلهفة،
"أتصدق؟ حدث أمر لطيف جدًا في الاجتماع اليوم… المدير أعطاني رواية رعب لأترجمها، ويزن قال إنه سيتكفّل بها بدلاً عني لأنه يعلم أنني أخاف من هذا النوع…قالها أمام الجميع، وتخيل؟ حتى المدير لم يرفض، طلب مني أن أساعده في الترجمة…
تخيل أن يزن نفسه، بكل لطفه هو من طلب أن يشاركني!"
كان صوتها ينبض فرحًا، نغمتها تتصاعد كمن تروي حلمًا صغيرًا تحقق لكن فجأة، انكسر الخط من الجهة الأخرى، جاءها صوته هذه المرة حادًا كحد السكين:
"رهف! إلى متى؟ إلى متى ستظلين ساذجة إلى هذا الحد؟!"
شهقت بخفة، لم تتوقع هذه النبرة، لا من يوسف ولا من أيّ أحد.
"يوسف…؟ ماذا تقصد؟"
قاطعها صوته يمتزج بالغضب والوجع دون أن يشعر لعمق كلماته:
"إنه يشعر بالشفقة تجاهك لا أكثر، يعلم أنك تكرهين روايات وقصص رعب لذا طلب المساعدة، أفهمي ذلك!
تنهد بحرقة ثم واصل كلامه:
في كل مرة تتصلين بي وكأنك طفلة تخبر والدها بأخبارها، وأنا؟ ما هو دوري؟
مجرد صندوق بريد تملئينه بتفاصيلك؟ ثم حين يقترب يزن تغلقين الخط كما لو أنني لم أكن؟!"
لم تعرف ماذا تقول، كانت دهشة صوته أكبر من قدرتها على الرد، قال أخيرًا بصوت أقرب للهمس المختنق:
"رهف… لقد تعبت."
ثم…
صمت.
الخط انقطع.
30تم تحديث
Comments