الفصل 3:حين يشتعل الصمت

جلست رهف على مقعدها الوثير، تلفّ ذراعيها حول كوب القهوة الذي انتظرها على المكتب وكأنه يحفظ لها طقوس العودة.

ابتسمت بهدوء... نظرت إلى الزوايا، إلى الجدران، إلى الأرفف التي تعرف أنفاسها، وكأنها تحتضنها بعد غياب.

خمس سنوات... خمسُ فصولٍ من عمرها كتبتها هنا، بين ترجماتٍ حارّة، وضحكاتٍ على الهامش، ودفءٍ تسلّل من الحبر إلى القلب.

أغمضت عينيها لحظة، فمرّت في ذهنها الوجوه والأيام واللحظات الصغيرة التي صنعتها في هذا المكان...

ابتسامتها اتسعت دون أن تدري كأن شيئًا فيها كان يحتفل بعودتها، لكن رنين الهاتف قطع خيط الذكريات ففتحت عينيها سريعًا.

"يوسف"

كان الاسم يلمع على الشاشة، كما لو أنه يحمل من الطفولة عبقها، ومن الأمان ظله.

ابتسمت مرة أخرى، تلك الابتسامة الخاصة التي لا تظهر إلا حين يتعلق الأمر بصديقٍ يعرف تفاصيلها منذ أن كانت تتعثر في خطواتها الأولى.

أجابت بصوت دافئ: "يوسف! صباح الخير."

"صباحكِ سكر يا رهف... عدتِ للمركز؟"

"نعم، وصلتُ للتو... لا زلت أستكشف كم تغيّر ولم يتغيّر."

ضحك بخفة:

"هل تظنين أن المكان شعر بالفراغ مثلي؟"

ردّت برقة:

"أنت لا تُترك لك أن تشتاق، أنت تتواجد حتى حين لا تكون."

قال بنبرة خافتة تحمل دفئًا لا يقال:

"وهل كنتِ تفتقدينني... ولو قليلًا؟"

ضحكت بمراوغة:

"لا أظنك ستقبل بالقليل، أليس كذلك؟"

"لا أقبل إلا بكامل الحضور... وكامل الاهتمام.

على أي حال مساءً أنا آتٍ لأوصلك بنفسي. لا جدال."

ضحكت ثانية وقالت:

"كما تشاء دكتور عنيد."

لكنها لم تكمل العبارة، فقد لمحَت من طرف عينيها من يقترب...

يزن عبد الوهاب.

زميلها الهادئ، الذي لطالما شدّها دون أن يدري...

بأدبه، بطريقة كلامه التي لا تجرح، بنظراته التي تتحدّث دون أن تتعدّى.

تنبّهت فجأة لحضوره، عدّلت جلستها دون قصد، وضغطت على زر الإغلاق وهي تقول بهدوء:

"سأحدثك لاحقًا يوسف."

ثم أقفلت الهاتف وحاولت أن تضبط تعابيرها بينما يقترب يزن بخطواتٍ هادئة يحمل بيده ملفًا وابتسامة صغيرة...

أما في الطرف الآخر من المكالمة...

كان يوسف لا يزال يُمسك بالهاتف، ينظر إلى شاشته كما لو أنه ينتظر تفسيرًا لما لم يُقال.

صوتها لا يزال يرنّ في أذنه، دافئًا... لكنها أقفلت الخط فجأة، وتحديدًا حين رأت يزن.

وقف بصمت أمام نافذة مكتبه الزجاجية، وألقى الهاتف على الطاولة الجلدية الثقيلة، ثم أسند كفه إلى حافة الزجاج، وعيناه السوداوَان تحدّقان في اللاشيء.

يوسف...

طويل القامة عريض الكتفين، يحمل وسامة ناضجة لا تفتقر لشيء.

بشرته السمراء تزيد ملامحه حضورًا، وشعره الكثيف ولحيته السوداء يُضفيان على وجهه جاذبية لا تحتاج إلى تكلّف.

رجولته لا تُعلن عن نفسها بالكلمات... بل بهدوئه، بثقته، وبالطريقة التي يملأ بها الفراغ من حوله.

عيناه لم تكن واسعة، لكنها ترى كثيرًا... أكثر مما ينبغي.

يراه الناس حازمًا، صارمًا، لا يعطي النساء أكثر من لفتة احترام.

لكن رهف؟

كانت وحدها القادرة على أن تربكه بصمتها، بنظرتها، وحتى بطريقة إغلاقها للهاتف، وهو... لم يكن مجرد رجل عابر في حياتها.

يوسف طبيب نفسي مختص في الصدمات واضطرابات الهوية، يعرف جيدًا كيف يخيط شقوق الآخرين بكلمة... ويُلملم انكساراتهم بصبر.

لكن كل علمه، لم يسعفه أمام هذا الشعور.

شدّ على يده ببطء، لكنّه لم يعبّر عن غضبه بانفعال، بل بصمتٍ ثقيل، يَشي بما لا يُقال.

يوسف لا ينهار... لكنه يشتعل، يشتعل بنيران لا يراها أحد.

همس لنفسه، كمن يُحدّث قلبه، لا عقله:

"كم مرة سأبقى فيها خلف الظلّ؟ كم مرة سأراكِ تنظرين لغيري... بينما أنا الذي يعرف وجهك حين تبكين وصوتك حين تضعفين؟"

ضحك بسخرية خافتة، وواصل همسه:

"لكن لا بأس... أنا الطبيب. وأحيانًا الطبيب يتعلّم أن يُخيط جرحه بإبرة الصبر."

ثم استقام واقفًا يشدّ أزر ثباته، وكأن شيئًا لم يكن...

لكنه في داخله كان قد بدأ للتو حربًا لا يعرف كيف ستنتهي.

مختارات
1 الفصل1: بين الغفوة واليقظة
2 الفصل 2: ظلٌّ خلف ابتسامة
3 الفصل 3:حين يشتعل الصمت
4 الفصل 4: بين لطفٍ عابر... وجرحٍ مقيم
5 الفصل 5: قلبٌ لا يحتمل القسوة
6 الفصل 6: الخمسة....وسرّ الذبول
7 الفصل 7: أخافني... لأنه رآني
8 الفصل 8: كأنهم يلعبون... وأنا أجهل القواعد
9 الفصل 9: الكتمان المؤلم
10 الفصل 10: نسمات الصباح
11 الفصل 11: وميض الغيرة
12 الفصل 12: بداية التحول
13 الفصل 13: الظلّ الذي رأى كل شيء
14 الفصل 14: حين يصحو الظلام
15 الفصل 15: على حافة الانفجار
16 الفصل 16: قلوب لم تّعلن الحرب بعد
17 الفصل 17: خيط بين الرجفة واللهفة
18 الفصل 18: ألم لا يقال
19 الفصل 19: يد تمتد... وقلب يتراجع
20 الفصل 20: حين وقفت ولم أعد كما كنت
21 الفصل 21: حين يغلق القلب ببطء
22 الفصل 22: حين يبرد الوطن
23 الفصل 23: حين يبوح الصمت
24 الفصل 24: خطوات في الظل... نحو المستور
25 الفصل 25: حين سقط القناع
26 الفصل 26: حين يسقط القناع
27 الفصل 27: رسالة منتصف الليل
28 الفصل 28: خروج من الوهم
29 الفصل 29: أنا هنا... وسأبقى
30 الفصل 30: أحاديث منتصف القلب
مختارات

30تم تحديث

1
الفصل1: بين الغفوة واليقظة
2
الفصل 2: ظلٌّ خلف ابتسامة
3
الفصل 3:حين يشتعل الصمت
4
الفصل 4: بين لطفٍ عابر... وجرحٍ مقيم
5
الفصل 5: قلبٌ لا يحتمل القسوة
6
الفصل 6: الخمسة....وسرّ الذبول
7
الفصل 7: أخافني... لأنه رآني
8
الفصل 8: كأنهم يلعبون... وأنا أجهل القواعد
9
الفصل 9: الكتمان المؤلم
10
الفصل 10: نسمات الصباح
11
الفصل 11: وميض الغيرة
12
الفصل 12: بداية التحول
13
الفصل 13: الظلّ الذي رأى كل شيء
14
الفصل 14: حين يصحو الظلام
15
الفصل 15: على حافة الانفجار
16
الفصل 16: قلوب لم تّعلن الحرب بعد
17
الفصل 17: خيط بين الرجفة واللهفة
18
الفصل 18: ألم لا يقال
19
الفصل 19: يد تمتد... وقلب يتراجع
20
الفصل 20: حين وقفت ولم أعد كما كنت
21
الفصل 21: حين يغلق القلب ببطء
22
الفصل 22: حين يبرد الوطن
23
الفصل 23: حين يبوح الصمت
24
الفصل 24: خطوات في الظل... نحو المستور
25
الفصل 25: حين سقط القناع
26
الفصل 26: حين يسقط القناع
27
الفصل 27: رسالة منتصف الليل
28
الفصل 28: خروج من الوهم
29
الفصل 29: أنا هنا... وسأبقى
30
الفصل 30: أحاديث منتصف القلب

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon