"أمي، أرجوكِ...!"
"هل تريدين أن تفضحيني هنا؟ فقط حاولي فعل ذلك، إيلينا. هل تظنين أنني سأترك ليانا وشأنها؟"
صرخت إيلينا بصوت حاد وهي تحاول التمسك بالأمل:
"لكنها ابنتكِ أيضًا، أمي!"
حدقت سيسيل في إلينا بوجه خالٍ تمامًا من أي مشاعر، قائلة ببرود:
"وماذا يمكن لتلك الطفلة أن تفعل من أجلي؟"
لم يتبقَ في ملامح سيسيل أي أثر للأمومة. شعرت إيلينا أن أمها لم تكن دائمًا بهذا الشكل القاسي؛ ففي الماضي، لم يكن الأمر بهذا السوء.
"إنها مجرد عبء، إلينا، شيطانة صغيرة تلتهم المال بلا توقف. ألم أخبركِ مرارًا أن علينا التخلص منها؟"
"أمي...!"
تابعت سيسيل بلا رحمة:
"إذا غادرتِ هذا المكان الآن، فسأطرد ليانا. قد يكون منزل متهالك، لكنه لا يزال ملكي."
بدأت نظرات إلينا تهتز، والخوف يتسرب إلى ملامحها.
كانت تعلم أن ليانا تحتاج إلى منزل، مكان يقيها من البرد ويحميها من المطر. ليانا، تلك الطفلة البريئة ذات السنوات الست فقط، التي كانت دائمًا مصدر عزائها الوحيد.
كانت ليانا، بضعفها وصغرها، السلسلة التي تكبل إيلينا. تلك الأخت الصغيرة التي لم تحصل على فرصة للتنفس بحرية منذ ولادتها، كانت السبب الوحيد الذي يمنع إيلينا من التحرر.
في النهاية، لم تستطع إيلينا مجابهة قسوة سيسيل. دفعتها مرة أخرى إلى تحت الأضواء الساطعة أسفل الثريا المعلقة في السقف، وكأنها ترميها في قلب العاصفة.
...※※※...
"ماكسيم، هل تراهن؟"
"أراهن على ماذا؟"
جلست كاميليا التي كانت تتكئ على الأريكة بملل، منتصبة فجأة، وقد أثارت المحادثة بين كاليس وماكسيم اهتمامها.
"تلك المرأة. يبدو أنها نجمة اليوم."
أشارت كاميليا بـ مروحتها نحو إيلينا، التي كانت تتناوب في الرقص مع الرجال دون أن تبتسم للحظة. أعاد ماكسيم نظراته إلى إيلينا مرة أخرى. في كل مرة يرفرف فيها فستان إيلينا، كان الرجال المحيطون بها يزدادون شوقًا لها.
لا بد أن والدتها، التي تبدو وكأنها مستعدة لبيع ابنتها بأي ثمن، قد اختارت لها ذلك الفستان الكاشف عن عمد.
"الرهان هو أن ترقص مع تلك المرأة."
واصل كاليس الحديث بنبرة رتيبة.
"ولماذا أفعل ذلك؟"
بدت الفكرة سخيفة وغير مثيرة للاهتمام بالنسبة لماكسيم، وكان على وشك إدارة رأسه بعيدًا عندما أضاف كاليس بابتسامة ساخرة:
"ألا تشعر بالفضول بشأن رد فعل عمتك؟"
ضحك كاليس بخبث.
"قد تكون مستعدة للتخلي عن فكرة زواجك بالكامل إذا كنت ستختار امرأة مثلها."
عبس ماكسيم. بغض النظر عن مدى عدم رضاه عما كانت تفعله عمته، لم يكن من حق كاليس أن يتجاوز الحدود بمزاحه بهذه الطريقة.
تحدث كاليس قبل أن يتمكن ماكسيم من الرد.
"ثم، ألا يمكن لتلك المرأة أن ترفع من قيمتها؟ أعني، نحن نتحدث عن ماكسيم العظيم هنا. كم من النساء هنا يحلمن بلمس يدك ولو لمرة؟"
تمتم ماكسيم بغضب:
"لعبة طفولية."
"فكر فيها كنوع من الإحسان، ماكسيم. انظر إلى مستوى الرجال الذين يحيطون بتلك المرأة المسكينة. أليسوا في نفس عمر والدي؟"
كانت كاميليا هي التي حثته هذه المرة، لكنها لم تبدُ وكأنها تتحدث بدافع الشفقة الحقيقية تجاه إيلينا، بل بدافع الفضول أو ربما لديها نوايا أخرى.
نهض مكسيم ببطء.
فتح كاليس عينيه بدهشة، غير متوقع أنه سيستجيب.
"هل ستفعلها حقًا؟"
وضع ماكسيم يده على كتف كاليس وضغط بقوة حتى تألم.
"آغ! ماكسيم!"
قال ماكسيم بابتسامة باردة:
"حتى لو كانت عمتي إنسانة خيرة تنسجم مع الجميع، فهي ليست من النوع الذي يصبح موضوعًا للسخرية بهذه الطريقة. هل نسيت؟ إنها الأميرة."
وأضاف بلهجة تحذيرية:
"كن حذرًا، كاليس. أنت لا تعرف من قد يستمع."
ظل كاليس يفرك كتفه بينما ابتعد ماكسيم. كان يشعر بالضيق من تصرفه المعتاد المغرور.
'أيها الوغد سيئ الحظ.'
ضاقت عينا كاميليا وهي تراقب ظهر ماكسيم وهو يبتعد. ثم استرخت على الأريكة مرة أخرى، متظاهرة بعدم المبالاة.
قال كاليس بنبرة متهكمة وهو ينتقل للجلوس بجانبها:
"هل رأيتِ ما فعله؟ حتى ماكسيم العظيم لا يستطيع تجاهل امرأة جميلة."
كانت عينا كاليس تراقبان رد فعل كاميليا بحذر. زمت كاميليا شفتيها ثم استلقت مرة أخرى.
ماكسيم كان رجلاً يحظى دائمًا بالأفضل فقط. خاصة منذ أن ازدهرت أعماله، أصبح أكثر انتقائية. كانت رؤيته الثاقبة تقوده إلى النجاح، مما جعل أعماله في المتاجر الكبرى تحقق أرباحًا متزايدة يومًا بعد يوم. هل يوجد في الإمبراطورية الآن من يملك ثروة تفوق ثروة ماكسيم؟
رجل مثله؟ مع امرأة تافهة كهذه؟ مستحيل.
ضيقت كاميليا عينيها مثل قطة، متظاهرة بالهدوء التام وكأن شيئًا لم يحدث. لكن يدها التي تحمل الكأس كانت ترتجف قليلًا.
لاحظ كاليس ذلك وأطلق تنهيدة قصيرة وهو ينظر إليها.
...※※※...
رقصت إيلينا بلا انقطاع، منتقلة من رجل إلى آخر. كانت تلك هي المرة الأولى التي تدرك فيها أن هناك هذا العدد الكبير من النبلاء الذكور في ريبونتو، وأن هناك الكثير منهم إما عزاب كبار في السن أو أرامل.
كان منهم من يطلب منها أن تنجب طفلاً، أو أن تكون أمًا لطفله اليتيم.
كانت إيلينا تمسح وجهها بيد مرتجفة، وقدميها منتفختين لدرجة أنها بالكاد تستطيع الوقوف. وفقط عندما شعرت أنها على وشك الانهيار، تمكنت من الهرب إلى الطاولة قائلة إنها ستأخذ استراحة. ومع ذلك، استمرت النظرات الموجهة إليها في مطاردتها.
كانت تلك النظرات تنقسم إلى نوعين:
الأولى كانت الطمع، وغالبًا ما صدرت من الرجال.
أما الثانية، فكانت الحسد، الغيرة، أو الاحتقار، وكانت من النساء.
كلما مرت إيلينا بمكان، كان الناس يبتعدون عنها ليفسحوا لها الطريق. معظمهم من السيدات النبيلات أو الفتيات الصغيرات اللواتي تجنّبنها كأنها حشرة.
[لا تقتربي منها، جيسي. قد تقللين من قدركِ.]
كلمة ”القدر“ تلك كانت تدوي في أذن إيلينا، مما دفعها لعض شفتيها بقوة.
كان كتفاها يرتجفان من الإهانة. لم يسبق لإيلينا أن فعلت شيئًا في حياتها يقلل من مكانتها، لكنها الآن تجد نفسها في هذا الوضع المهين بفضل والدتها، التي دفعتها إلى هذا المستنقع.
لم يكن هناك أي أحد إلى جانبها في هذا المكان. الجميع أصدروا أحكامهم بناءً على ملابسها فقط. كانت إيلينا تشعر بالإرهاق والنعاس. أرادت فقط العودة، لتحتضن يد أختها الصغيرة ليانا وتنام بجانبها.
'هل عليّ الهروب؟'
ربما كان من الأفضل أن تهرب مع ليانا. كان جشع سيسيل لا نهاية له، وإن استمرت على هذا النحو، فقد ينتهي بها الأمر إلى بيعها لرجل مسن كما تُباع السلعة في السوق. بل ربما يكون الأمر قد تقرر بالفعل. فـ سيسيل قادرة على فعل ذلك دون تردد.
كانت سيسيل منهمكة في المفاوضات مع النبيلات حول ”قيمة“ إيلينا. وعلى مقربة منها، تجمع الرجال الذين رقصوا مع إيلينا وهم يراقبون باهتمام.
«عرض الأسعار، تقييم القيمة.»
أليس هذا مشهدًا لا تراه إلا في الأسواق؟ لم تكن إيلينا تختلف عن المُهرة المعروضة للبيع.
ابتسمت إيلينا بسخرية.
بينما كانت ترفع رأسها، وتنظر إلى الثريا بتأمل شارد، ظهر رجل آخر فجأة، ليقطع استراحتها القصيرة.
"سيدتي."
لقد كان صوته هادئًا وعميقًا، منخفضًا لكن مفعمًا بالقوة، حلوًا مثل القهوة المغطاة بالكريمة. عبست إيلينا بانزعاج طفيف وخفضت نظرها.
إنه هو، الرجل الذي أبدى اللطف لها قبل أسبوع.
رجل ذو شعر أسود يتدلى بحرية، وعينين خضراوين داكنتين.
في ذلك الوقت، لم تدرك إيلينا أنها لم تقدم له حتى الشكر كما ينبغي، إلا بعد نزولها من العربة وعودتها إلى المنزل. ولم تتوقع أبدًا أنهما سيلتقيان هنا وبهذه الطريقة.
يبدو أنه آتى أيضًا إلى ريبونتو لحضور مأدبة عيد ميلاد كونتيسة بريستو. كان بلا شك أكثر الرجال وسامة وشبابًا بين كل من طلبوا منها الرقص.
يجب أن يكون الأمر على هذا النحو. كان على إيلينا دائمًا أن تتعامل مع الرجال الذين يسارعون لشراء نساء شابات وجميلات يتمتعن بصحة جيدة.
نظرت إيلينا إليه بذهول، وأشارت بإصبعها إلى نفسها.
"أ، أنا؟"
كيف يمكن لرجل كهذا، الذي يجذب النساء من حوله دون أي جهد، أن يطلب منها هي تحديدًا أن ترقص؟
ابتلعت إيلينا لعابها ونظرت حولها. أدركت أنه لا توجد امرأة أخرى تستحق لقب سيدة، إذ تراجعت النساء الأخريات عن محيطها، وكأنهن يهربن.
ابتسم الرجل، وكانت ابتسامته جاذبة للغاية.
"ومن غيركِ يا سيدتي موجود هنا؟"
أطلقت ضحكته الهادئة فيضًا من الدفء الذي استولى على اهتمام إيلينا.
"لماذا..."
"في مثل هذه المناسبات، لا يوجد سبب يدفع رجلًا نبيلًا لمد يده إلى سيدة إلا لأجل شيء واحد."
انحنى الرجل برشاقة، وطبع قبلة خفيفة على ظهر يدها الشاحبة، ثم رفع عينيه لينظر إليها.
"الرقص؟ معي؟"
سألته إيلينا ذلك وهي ترفع رقبتها مثل غزال مذعور.
'لماذا؟ ما الذي قد يجعله يفعل هذا؟'
وبينما كانت مترددة، أمسك الرجل بيدها برفق وسحبها نحو ساحة الرقص.
"لن تندمي على ذلك أبدًا."
'على ماذا؟'
كانت على وشك أن تسأله، لكن قبل أن تتمكن من ذلك، وجدت نفسها على ساحة الرقص، ممسكة بيد ذلك الرجل. لف ذراعيه بلطف حول خصر إيلينا. لقد كانت لفتة مختلفة تمامًا عن الرجال السابقين الذين كانوا يتصرفون بخشونة. ثم أمسك بيدها بلطف، وبدأت الموسيقى.
لقد كانت مقطوعة فالس مألوفة.
Comments