بينما كانت عربة ماكسيم تعبر جسر كريس، البوابة الأخيرة المؤدية لمنطقة ريبونتو، كانت إيلينا، التي هربت من منزلها، تتجول أيضًا في مكان قريب. كانت على زاوية شفتاها قشرة من الدم إثر الصفعة التي تلقتها، ووجهها متورم من البكاء. بدا مظهرها في حال يرثى لها، مما قد يثير شفقة أي شخص يراه.
نظر ماكسيم بلا مبالاة نحو إيلينا عبر نافذة العربة. لقد كانت مجرد نظرة عابرة، لكن لسبب ما، جذب مظهر المرأة اهتمامه وأثّر فيه.
كان شعرها غير المرتب والفوضوي يتناقض تمامًا مع جودة القماش الفاخر لثوبها. بناءً على تصميم الثوب وحالته الممزقة عند الحافة السفلية، كان من الواضح أنه قديم.
كمالك لسلسلة متاجر متعددة الأقسام، إعتاد ماكسيم على تقييم الأشياء وتقدير قيمتها. ومن هيئتها، استنتج أنها ابنة عائلة نبيلة فقدت مجدها وثروتها.
ابتسم بسخرية طفيفة.
'يا تُرى، أي نوع من بنات العائلات الثمينات هي، لينتهي بها الحال هائمة في الطرقات بعد غروب الشمس بهذا الشكل؟'
ثم أضاف في نفسه:
'العائلة التي سمحت لها بالخروج بهذا المظهر، يجب أن لا تُحترم.'
هزّ ماكسيم رأسه وأطلق صوتًا خفيفًا من الامتعاض قبل أن يسدل الستائر على النافذة.
"الملابس التي يرتديها الإنسان لا تحدد قيمته أو مكانته."
ولكن، بالنسبة لهذه المرأة، كان حالها البائس انعكاسًا لوضع عائلتها.
'لا خير في التورط مع عائلة كهذه.'
قرر ماكسيم إنهاء اهتمامه بما يدور في الخارج وأغمض عينيه لينصرف عن التفكير بها.
...※※※...
تجولت إيلينا أمام جسر كريس لبعض الوقت. كان نبض قلبها يقصف بقوة. إذا ما عبرت هذا الجسر، ستكون هذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدمها خارج منطقة ريبونتو منذ استقرارها هناك.
كانت ريبونتو مثل القفص الذي يحتجزها، وكان الجسر هو المتنفس الذي تأتي إليه كلما شعرت بالاختناق. لكن في كل مرة تقترب فيها من حافة جسر كريس، كان شعور بالذنب الجارف يبتلعها، كما لو أنها تخلت عن والدتها وشقيقتها الصغيرة.
وقفت تحدق بعيون شاردة نحو الجانب الآخر من الجسر. كانت تلك النقطة تمثل بالنسبة لها الحد الفاصل الذي لا تستطيع تجاوزه.
رمشت عيناها بينما لاحظت أن الضوء البعيد يقترب شيئًا فشيئًا. كانت عربة فاخرة تمر بجوارها. وللحظة، التقت عيناها بعيني الرجل الجالس داخل العربة، ولكن ملامح وجهه لم تكن واضحة بسبب الظلام.
واصلت العربة طريقها مبتعدة.
ثم تساءلت في نفسها:
'من الذي يركب بها؟'
كانت ريبونتو مؤخرًا تشهد قدوم العديد من العربات الفاخرة بسبب حدث ما. حتى والدتها، رغم كل شيء، تأثرت بتلك الأجواء.
لكن، بالنسبة لإيلينا، كانت هذه الرياح الجديدة مجرد سراب لا قيمة له.
حتى الشجار الذي حدث اليوم كان بسبب هذا الحدث، حيث أقامت إحدى السيدات الأرستقراطيات حفلًا ودعت جميع النبلاء المقيمين في ريبونتو إليه.
كانت والدتها، سيسيل، تعتقد بإصرار أن بإمكانها تزويج إيلينا لرجل من عائلة مرموقة. لكن على أي أساس كانت تضع تلك الآمال؟
[ألا تهتمين بمظهركِ؟ لقد ورثتِ عني أجمل الملامح، وعليكِ معرفة كيف تستغليها جيدًا! عندها يمكننا على الأقل أن نجد لكِ زواجًا في مستوى عائلة كونت.]
بالنسبة لإيلينا، لم تكن قيمة المرأة تعتمد على جمالها، بل على فضائلها كزوجة تعتني بأسرتها وشؤون منزلها. كانت ترى أن القليل من الزينة لتبدو لائقة يكفي.
لكن بالنسبة لسيسيل، كان الجمال سلاحًا، وكانت ترى أنه لا عيب في استغلاله لإبرام صفقة جيدة لبيع ابنتها.
لم تكن سيسيل تخجل من طموحها في استغلال ابنتها، ولم تدرك حتى أنه أمر مخزٍ.
[أي نوع من النبلاء نحن؟ ليس لدينا المال حتى لشراء فستان جديد! النبلاء الحقيقيون هم من يعيشون في ترف ورفاهية، وأنا أريد أن أوفر لكِ تلك الحياة! استمعي إلى والدتكِ وستعيشين كنبيلة حقيقية.]
'هل هذا ما يعنيه أن تكون نبيلًا حقًا؟'
لم تكن إيلينا تمانع ارتداء فستان قديم مُعدل من فساتين والدتها التي ارتدتها والدتها في شبابها، على عكس والدتها التي كانت تسخر منها وتصفها بـ المثير للشفقة.
[اشتري دائمًا الأفضل. ألم تسمعي المثل القائل إنه عندما لا تعرف ماذا تشتري، فاختر الأغلى؟ كل ما عليكِ فعله هو أن تجدي رجل يتمتع بأغنى وأرفع مكانة لتتزوجيه. هل فهمتِ؟]
سقطت دموع إيلينا على وجنتها التي لا تزال تحمل آثار كدمات.
كان عقلها مشوشًا.
شعرت أن الأمور قد انتهت بها بالفعل، وأنها إذا عادت إلى المنزل الآن، ستتورط في جدال لا طائل منه مع والدتها، ثم في النهاية، ستجد نفسها تُباع كزوجة ثانية لعائلة ثرية.
أو ربما تكون والدتها قد ذهبت إلى مكان ما بالمال الذي أخذته منها.
في نظر سيسيل، لم يكن الوقت المتأخر عائقًا، إذ كانت قادرة على إيقاظ بائع متجول عبر الإمساك بياقته إذا دعت الحاجة.
كانت سيسيل مهووسة بفكرة ”بيع إيلينا بأعلى سعر ممكن‟.
ارتجفت شفتا إيلينا الملطختان بالدماء وهي تقول:
"لو كان بإمكاني فقط الهروب من هنا، إذا استطعت عبور هذا الجسر…"
ثم أصبح تعبيرها مظلمًا.
كان من السهل على الناس عبور هذا الجسر. كما حدث الشيء نفسه للعربة التي مرت بالقرب من إيلينا قبل لحظات. لكن عبور الجسر هو أصعب شيء في العالم بالنسبة لإيلينا.
وبينما كانت تنظر إلى الجسر، شعرت وكأن العالم كله يسخر من ضعفها، ثم ومض وجه ليانا أمام عينيها.
إذا عبرت الجسر، ستترك وراءها كل شيء، بما في ذلك شقيقتها الصغيرة، ليانا، التي كانت الوحيدة التي تستطيع الإمساك بيدها الصغيرة وطمأنتها.
لم تستطع التخلي عنها. فقد كانت سيسيل ترى أن ليانا عبء غير مربح، وحتى الأدوية اللازمة لها لم تكن تعتبرها أولوية.
في الواقع، حتى هذا اليوم، استولت على المال المخصص لشراء أدويتها.
ومضت مصابيح الشوارع المثبتة على جسر كريس. لقد كان وقت تشغيل الإضاءة.
منذ توزيع الكهرباء على منطقة ريبونتو، أصبح الناس يعيشون حياة أكثر أمانًا وراحة من ذي قبل. وكانت أضواء الشوارع أيضًا نتاجًا للتطوير. العالم يتغير بسرعة كبيرة، ولكن سيسيل لم تختلف قط عن ذي قبل.
ابتسمت إيلينا بحزن وهي تنظر إلى الأضواء التي بدأت تضيء الجسر، وكأنها عالم ساحر يفتح أمامها.
"جميل…"
كانت الأضواء الوامضة، مثل اليراعات المتجمعة في مكان واحد، تبث الحياة في الظلام.
لقد كانت إحدى اللحظات المفضلة لدى إيلينا، فقد بدا أن هذا الطريق يرحب بها. وكأنه يقول لها أعدكِ بالسعادة، فلنذهب معًا.
ولكن رغم الأضواء الساطعة على الطريق، لم تستطع إيلينا أن تخطو عليه ولو خطوة واحدة.
بدأت دموعها بالانهمار بشدة، بعد أن شعرت بالارتياح لعدم وجود أحد يشهد ضعفها هذا الآن. بكت إيلينا بلا هوادة، وكأن السد الذي كان يسد دموعها قد انهار فجأة.
"إهيء، آاااااااه..."
كانت تشعر بأن صدرها سينفجر من الحزن. لقد كان لديها أيضًا العديد مما ترغب في القيام به، والكثير مما يمكنها تحقيقه. أرادت الالتحاق بالأكاديمية. كان لديها شغف لتعلم أشياء كثيرة. كما أحبت الكتابة. في ريبونتو، التي كانت بعيدة عن المراكز الحضارية، كان من النادر أن تجد أشخاصًا متعلمون أو يجيدون القراءة والكتابة.
وعلى الرغم من أنها كانت تساعد أحيانًا في أعمال الترجمة باستخدام الكتابة التي تعلمتها من والدها الراحل، إلا أن عالم إيلينا كان صغيرًا. لم تستطع حتى أن تحلم.
'لماذا أعيش؟'
تساءلت إيلينا بينما تحاول التوقف عن البكاء لالتقاط أنفاسها.
وبينما كنت تقف محدقةً في ساقيها بعينين محمرتين من البكاء، لاحظت عربة تقترب منها. ظنت إيلينا إنها كأي عربة آخرى ستتجاوزها ببساطة لتعبر جسر كريس، لكنها توقفت فجأة خلفها.
التفتت إيلينا بوجه متفاجئ، وفي تلك اللحظة، انفتحت نافذة العربة.
ظهر من النافذة وجه رجل شاحب تغمره ملامح الكآبة. كان غريبًا تراه لأول مرة. بدا كرجل أنيق ومتأنق. انعكس ضوء المصابيح على شعار العربة، كاشفًا عنه.
رمش الرجل ببطء، وأسند ذراعه على النافذة، وأمال رأسه قليلاً قبل أن يتحدث بصوت منخفض مفعم بالبرود:
"قد تقعين في مشكلة كبيرة إن بقيتِ هنا هكذا."
كان لصوته نبرة كئيبة وعميقة تبدو وكأنها مناسبة للظلام الذي يحيط بهما. حاولت إيلينا أن ترتب مظهرها، لكنها سرعان ما أدركت أنه لا شيء يمكنه إصلاح حالتها الآن. لم تكن حتى ترتدي حذاءها الذي تركته في المنزل.
ابتسم الرجل بخفة بينما يبدو على وجهه علامات التعب وقال:
"جميع الرجال المارة يحدقون بكِ."
رمشت إيلينا بعينيها بدهشة، ثم تلعثمت قائلة:
"وما-ما شأنك أنت؟"
إيلينا، التي أجابت بإحراج، خطت خطوة إلى الخلف دون وعي. كان من المربك جدًا أن تجد نفسها تتحدث إلى رجل بهذا الشكل. وسرعان ما شعرت بحرارة الخجل تكسو وجهها، فأحنت رأسها وهي تحاول إخفاء احمرار وجنتيها.
قال الرجل بابتسامة خفيفة:
"ليس لي شأن في الواقع. لكنني رأيتكِ الآن. وإذا استيقظت غداً ورأيت صورتكِ في الصحف، قد أجد نفسي غارقًا في شعور بالذنب دون سبب. لماذا لا تصعدين العربة بدلاً من تضييع الوقت في الجدال؟"
حتى لو كان فقط يكرر ما قاله له سائقه، لقد شعر للحظة بالندم على ذلك. وتساءل في نفسه عن سبب تدخله في أمور لا تخصه، مما زاد من شعوره بالإرهاق.
ما الذي يعنيه له ما إذا كانت تلك المرأة التي تبدو يائسة في خطر، أو إذا كان بعض الرجال المتسكعين يلقون نظرات خاطفة نحوها، أو حتى ما إذا كان السائق يقول ما يشاء فحسب؟
كان هذا كله لا علاقة له به.
Comments