ابتعد ماكسيم عن النافذة وتنهد. حتى حركة يده وهو يمررها على شعره كانت تكشف عن إرهاقه العميق.
قال بصوت فيه نبرة خفيفة من الضيق:
"أنا متعب وأرغب في العودة بسرعة."
ترددت إيلينا. في الواقع، لم تكن تعلم بأي عقلية سارت حتى وصلت إلى هنا. مشت بلا هدف حتى وصلت إلى جسر كريس. لقد كان نفس النمط يتكرر في كل مرة، ولكن اليوم كان مختلفًا بعض الشيء.
لأن هذا الرجل النبيل الذي أمامها قد تدخل.
تنهد الرجل مرة أخرى وأدار رأسه.
"يبدو أنني تدخلت أكثر مما ينبغي. على أي حال، سأذهب الآن…"
"من فضلك أوصلني. إنه أول منزل تراه عندما تذهب فوق التل. وسأكون ممتنة إذا تمكنت من إنزالي في مكان بعيد قليلًا."
تحدثت إيلينا بسرعة، ثم دارت حول العربة باتجاه الباب. كان السائق المرتدي ملابس أنيقة قد فتح لها الباب، مرافِقًا إياها بأدب. أعطت ابتسامة السائق الشجاعة لإيلينا.
"شكرًا لك."
ابتلعت إيلينا لعابها بعد أن همست بصوت منخفض بالشكر للسائق. في الحقيقة، كان ركوب هذه العربة نوعًا من المقامرة بالنسبة لها. إذا كان الرجل شخصًا سيئًا، فقد ينتهي بها الأمر ميتة. وإن كان شخصًا جيدًا بالفعل، فقد حصلت على توصيلة مجانية. بالنسبة لإيلينا، لم يكن لديها ما تخسره.
كان الجزء الداخلي من العربة أوسع مما بدا عليه من الخارج، والرجل الجالس هناك كان ضخمًا ومناسبًا تمامًا لرحابتها.
كان يحمل مزيجًا غريبًا بين الوحشية والهيبة الأنيقة.
'هل كلمة ”وحشية“ هي الوصف الصحيح؟'
أدارت إيلينا رأسها بسرعة، غير مصدقة أنها تفكر بهذه الطريقة.
عضّت شفتيها في حرج.
"آه."
نتيجة لذلك، شعرت بألم طفيف حيث جرحت شفتيها. غطت إيلينا وجهها بيدها متظاهرة بفرك خدها. لم يكن من السهل عليها أن تظهر بهذه الطريقة أمام رجل نبيل حقيقي لم يسبق لها رؤيته من قبل في حياتها. خاصة واحدًا بمثل هذا المظهر المهندم. شعرت بالإحراج يتصاعد إلى وجهها، وتحركت أصابع قدميها بشكل لا إرادي.
شعرت بنظرات الرجل وهي تمر على قدميها قبل أن تتوقف عند وجهها.
ربما كان ينظر إلى الجروح على وجهها، الذي تسبب فيها دفع سيسيل لها وضربها.
أغمضت إيلينا عينيها وبدأت تعد الأرقام في ذهنها، متمنية أن تتوقف العربة قريبًا.
كانت العربة تسير بثبات، وعادت بهما إلى الطريق الذي كانت قد مشته وحدها سابقًا. عندما توقفت العربة أخيرًا، قفزت إيلينا مثل أرنب مذعور، خارجة من الباب المفتوح بأدب.
ابتسم ماكسيم وهو ينظر إلى ظهرها الهارب. لم تقل كلمة شكر أو حتى تسأل عن اسمه.
بدت كحيوان صغير ضعيف يتعرض للهجوم.
لم يكن واضحًا ما إذا كانت خائفة أم وقحة.
بعد رحيلها، ظهر وجه السائق من خلال الباب، وعلى ملامحه تعبير بالفخر. كان هذا السائق من بين تلك المجموعة الغريبة من خدم العائلة.
نقر ماكسيم بلسانه وضيق عينيه.
"أليس لدى مدير الخدم أي فكرة عن كيفية إدارة الأشخاص؟ كلهم مجموعة من المتذمرين."
قال بحدة:
"هل انتهينا الآن؟"
رد السائق بابتسامة ماكرة:
"الجميع في العاصمة سيتحدثون عن كرم الدوق."
نقر ماكسيم بلسانه مرة أخرى، وأغلق الباب بنفسه بعنف.
*نقر بـ/على لسانه يعني قال (تسك) علامة ع الاستياء يعني أو عدم الرضا
امدحوا اجتهادي ف البحث عن معناها🙈
...※※※...
كانت أيام ماكسيم في ريبونتو مملة بشكل لا يُطاق. وكانت عمته تبذل كل ما في وسعها لإبقائه هناك. لم تقابله لمدة أسبوع، متظاهرة بأنها مريضة وطريحة الفراش.
'لأن جدي كان يدللها دائمًا، هذا ما جعلها، حتى بعد أن بلغت الستين، متسلطة بهذا الشكل.'
صر ماكسيم على أسنانه وهو يفكر في أنه يجب على عمته أن تفهم كم سيكون هذا خسارة فادحة لرجل أعمال يقدّر كل ثانية. لكن على الأقل، اليوم لن يكون لديها خيار سوى الظهور. فاليوم هو حفلة عيد ميلادها الستين.
وبعد هذا اليوم، سيغادر ماكسيم هذا المكان الممل.
بالطبع، لم يكن ماكسيم الوحيد الذي أُجبر على القدوم إلى ريبونتو. كانت كاميليا أيضًا هناك.
كان لدى كاميليا وماكسيم علاقة طويلة الأمد، لذا انتهى بهما الأمر بطبيعة الحال بالجلوس على نفس الطاولة. لكن فقط لأن الاثنين كانا يعرفان بعضهما البعض لفترة طويلة لا يعني بالضرورة أن علاقتهما كانت جيدة. فقد كانا يجلسان في صمت دون أن يتبادلوا حتى كلمة واحدة، إلى أن اقترب منهما كاليس.
"أنتما الوحيدان هنا اللذان تبدوان بهذا الملل. إذا رأى الآخرون ذلك، فسيعتقدون أن هناك كارثة كبرى في الأسرة."
"شكرًا لإعلامنا بذلك."
أجابت كاميليا بلهجة جافة وأدارت رأسها.
كان جليًا أن الكونتيسة بريستو قد دعت جميع النبلاء المقيمين في المنطقة إلى الحفلة للبحث عن عروس. كذلك كان الكونت بريستو يبذل قصارى جهده لتزويج ابنه الوحيد.
على الرغم من أن دوافع الكونت بريستو وزوجته كانت مختلفة، إلا أن الهدف كان نفسه، وهو جمع أكبر عدد ممكن من النبلاء.
حتى هناك دعوات قد أُرسلت إلى العاصمة، مما يعني أن كل من يأمل في تشكيل علاقة مع عائلة بريستو قد جاء إلى هنا.
كاميليا، التي كانت تجلس مع تعبير بالملل، ضاقت عينيها فجأة.
"لكن تلك المرأة... بالغت حقًا."
تمتمت كاميليا، موجّهة نظرها نحو سيسيل جوزيف، التي كانت تقف مرتدية ملابس مزينة بشكل مبالغ فيه أشبه بالطاووس.
رغم محاولاتها لإخفاء رداءة فستانها بارتداء الحلي بطريقة خرقاء، كانت أطراف الفستان بالية، والمجوهرات التي ترتديها تبدو رخيصة ومبتذلة.
بدت مثل مهرج بسبب مظهرها البعيد تمامًا عن الموضة ومستحضرات التجميل الثقيلة.
"هل كان لا بد من دعوة امرأة كهذه؟ ماكسيم، ماذا ستفعل لو حاولت عمتك تزويجك من امرأة مثلها؟"
كان ماكسيم يرفع كأسه عندما سمع اسمه، فأدار رأسه ببطء. ونظر إلى المكان الذي أشارت إليه كاميليا، حيث كانت هناك امرأة تقف بارتباك، تبدو غريبة وغير ملائمة لهذا المكان.
كانت صغيرة، ذات بشرة شاحبة، وملامحها تحمل شيئًا من الألفة بشكل غامض.
ضاقت عينا ماكسيم بينما كان يحدق فيها.
'إنها مألوفة، كما لو رأيتها من قبل.'
فكر ماكسيم، وهو يدرك أنه ربما التقى بها في الماضي.
كانت ترتدي ثوبًا قصيرًا يكاد يغطي كاحليها، باهت اللون، وكبيرًا عليها وكأنه لا يخصها لدرجة أنه بدا وكأنه سينزلق عنها. ولكن، رغم كل ذلك، كان مظهرها يحمل براءة وجمالاً رقيقًا.
كانت عيناها الزرقاوان اللامعتان تملآن نصف وجهها الشاحب. وزينتها كانت في حالة مزرية وكأن أحدًا قد أفسدها.
بسبب همسات الناس الموجهة نحو تلك المرأة، كانت تبدو كحيوان صغير يبحث عن مكان للاختباء.
وفي اللحظة التي نظر فيها ماكسيم إلى أصابع قدميها، تبادر إلى ذهنه القدمين الصغيرتين الحافيتين اللتين رآهما من قبل. لقد كانت بذلك الوقت أقدام مغطاة بالتراب، لكنها كانت لا تزال بيضاء رغم ذلك، كتلك التي أمامه الآن.
"آها."
نظرت كاميليا إلى مكسيم بعد أن سمعت علامة التعجب التي أطلقها.
'لقد كانت تلك المرأة من ذلك الوقت.'
قبل أسبوع، في اليوم الذي شاهد فيه أرنبًا يهرب من جسر كريس، معتقدًا أنه أنقذه، لكنها جعلته يشعر بأنه كان مجرد صياد. ضحك ماكسيم وهو يقول في نفسه:
'لم اتوقع أبدًا أننا سنلتقي بهذه الطريقة.'
"هل تعرف تلك المرأة؟"
كان كاليس هو من أجاب على سؤال كاميليا، التي كان صبرها يكاد ينفد.
"أستطيع فقط أن أخمن. تلك المرأة هي سيسيل جوزيف. ومن مظهرها أعتقد أنها أحضرت ابنتي معها لأنهم كانوا يرتدون ملابس مماثلة. لا أستطيع إلا أن أشفق عليها. ما هو شعور ابنتها وهي ولدت ابنة لمثل هذه المرأة؟ هل تشعر وكأنها طائر سخرية؟"
ضاقت عينا ماكسيم.
'جوزيف، جوزيف… إيلينا جوزيف.'
"الآن أعرف اسمكِ."
تمتم ماكسيم ببرود، ثم ابتسم بسخرية.
في ذلك اليوم على جسر كريس، لم يكن قرار ماكسيم بإركاب إيلينا في العربة نابعًا من رغبته، بل جاء نتيجة إصرار السائق الذي ألحّ بشكل مزعج. فقد كان السائق يتحدث بصوت عالٍ مفترضًا أسوأ الاحتمالات التي قد تواجهها إيلينا إن استمرت في التجول بمظهرها ذاك في مثل هذا الطقس السيئ. لدرجة أن قدرته على تخيل السيناريوهات جعلت ماكسيم يفكر في أنه كان من الأفضل لو أن السائق أصبح كاتبًا، فقد كان ليكون بارعًا بمخيلته تلك.
مع تصاعد الشعور بالإرهاق بسبب السائق وكثرة ثرثرته، اضطر ماكسيم أخيراً إلى الرضوخ وطلب منه أن يدير العربة. في تلك اللحظة، صاح السائق بصوت مليء بالفرح:
[كما توقعت، دوقنا رجل نبيل بحق! كنت متيقن من ذلك!!]
'ما الذي كنت متيقن منه بحق خالق السماء، وماذا توقعت؟ …هه.'
فكر ماكسيم بإحباط متسائلًا عمّا يعنيه السائق بعباراته الغريبة، ومتمنيًا لو أنه اختار ركوب القطار بدلاً من العربة، رغم ازدحام القطار وعدم رغبته في الاختلاط مع الآخرين. لكن ظروفه لم تترك له خيارًا سوى اللجوء إلى العربة، لتقوده إلى هذا الموقف غير المتوقع.
على أية حال، لقد كانت إيلينا امرأة التقي بها من خلال هذا النوع من المواقف، ولم يتخيل أبدًا أنه قد يصادفها مجددًا وبهذه الطريقة. مظهرها اليوم مختلف عن حالتها البائسة على جسر كريس، لكنها الآن تبدو وكأنها مجرد قطعة في لعبة زواج مرتب من أجل تحقيق مكاسب عائلية.
فقد كان معروفًا أن الآنسات تأتي إلى مثل هذه الحفلات ليتم بيعهن بسعر مرتفع في سوق الزواج.
والغريب في كل ذلك أن ماكسيم وجد أن إيلينا بمظهرها غير المرتب على الجسر كانت أفضل حالاً، وأكثر طبيعية مما هي عليه الآن.
نظرت كاميليا إلى ماكسيم بينما كان مستغرقًا في التفكير ولاحظت نظراته إلى إيلينا.
شعرت بشيء غريب في تصرفاته، لكنها لم تقل شيئًا، فقط نظرت إليه قليلاً ثم أعادت تركيزها بعيدًا عنه. لكنها في داخلها، تساءلت:
"هل يمكن أن يكون ماكسيم مهتمًا بمثل هذه الفتاة؟"
*"طائر السخرية" هو تعبير مجازي يشير إلى كائن يتعرض للسخرية والازدراء من قِبل الآخرين، وهذا النوع من التعبيرات غالبًا ما يُستخدم للإشارة إلى شخص ضعيف أو غير قادر على الدفاع عن نفسه أمام المجتمع أو الظروف المحيطة به.
Comments