تنحنحت سيسيل بصوت مرتفع.
سواء كانت تفعل ذلك عن قصد أو أنها لم تنتبه لنبرة صوتها حقًا غير معلوم، لكنها تمكنت أخيرًا من التسلل بين السيدات النبيلات اللواتي لم يبدين أي اهتمام بها.
"أوه."
"ما الذي تفعله؟"
رفعت السيدات مراوحهن وتراجعن لتجنب ملامسة سيسيل. حتى أن بعضهن جذبن أطراف ثيابهن بعيدًا كما لو أنهن لا يرغبن حتى في الاقتراب منها. وعلى الرغم من أنهن لم يظهرن تجنبهن بشكل صريح، إلا أن مشاعر العداء تجاهها كانت واضحة.
تحول وجه سيسيل إلى اللون الأحمر بسبب النظرات الحادة للسيدات، لكنها لم تعتزم التخلي عن هذا الموقف.
"يجب أن أستخدم هذه الفتاة لأحصل على مكسب كبير على الأقل. لا يمكنني الاستمرار في العيش هكذا إلى الأبد!"
ما كانت إيلينا تجنيه من مال قليل لم يكن يرضي جشع سيسيل. ولهذا أحضرتها إلى هنا بهدف تزويجها من رجل ثري، وتأمين نصيبها من المال. لقد بذلت الكثير من الجهد لتغطية أثر الصفعة التي وجهتها لإيلينا قبل أسبوع، والتي تسببت في تورم وجهها.
إضافة إلى ذلك، اعتقدت أن زواج إلينا من رجل ثري سيضمن لها حياة مريحة. فلن تكون بحاجة للعبث بالترجمة بعد الآن.
'يجب أن تعيش كنبيلة حقيقية. هذا الوضع البائس لا يناسبنا.'
لذلك، اختارت لها أجمل ثوب تمتلكه، وأكثره كشفًا عند الصدر، لتبدو جذابة. لحسن الحظ، ورثت إيلينا مظهرها الجميل من والدتها، مما جعلها محط أنظار الرجال الذين بدأوا يقتربون منها بسبب جاذبيتها الغامضة.
لكن إيلينا، التي لم تكن تعي ما يحدث، هربت إلى الحائط لتتفادى الجميع.
رأت سيسيل ما كانت تفعله إيلينا وأطلقت تنهيدة طويلة.
'دائمًا هكذا. لا يكفي إعداد الطاولة لهم، بل عليكِ إطعامهم.'
شعرت بالإحباط من تصرفات إيلينا. ابنتها ليانا في وضع لا يمكنها حتى الحصول على نفقات الزفاف، وابنتها الكبرى، التي لا تزال بخير ويمكنها الاعتماد عليها تبين أنها خرقاء ولا تساوي حتى سبعة بنسات. بالنسبة لسيسيل، كان هذا الوضع محبطًا للغاية.
الحياة للجميع متشابهة. التظاهر بالكبرياء قد يؤدي إلى خسارة كل شيء فحسب. لهذا السبب تقدمت سيسيل للأمام و تنحنحت مرة أخرى بصوت عالٍ.
"في الواقع، أحضرت ابنتي الكبرى معي. إنها إيلينا."
التفتت السيدات ونظرن إلى سيسيل.
"إنها تلك الفتاة هناك."
أشارت سيسيل بإصبعها نحو إيلينا، مما جذب انتباه السيدات إليها.
كانت فتاة ذات هالة غريبة. شعرها الذهبي الباهت الطويل وعيناها الزرقاوان اللامعتان جعلاها تبدو مميزة. ورغم أن جسدها كان نحيفًا، إلا أن ملابسها أبرزت تفاصيلها بطريقة جيدة. حتى الطريقة التي كانت تمسك بها ثوبها أثارت غريزة الحماية لدى الآخرين.
رؤية بشرتها الشاحبة وملامحها المرتبكة تجذب المزيد من الأنظار إليها.
كانت جميلة بلا شك، وتحمل جاذبية خاصة تثير الإعجاب.
"...إنها فتاة جميلة حقًا."
ابتسمت سيسيل ابتسامة انتصار. بالطبع، فـ إيلينا ورثت جمالها منها.
"علاوة على ذلك، إيلينا فتاة طيبة للغاية. كل ما تفكر فيه هو عائلتها. إنها تجيد القراءة، العزف على البيانو، وحتى الترجمة."
بدأت سيسيل بالتفاخر بكل شيء تتذكره، وهي الأشياء التي علمها إياها والدها شخصيًا عندما كان على قيد الحياة.
"رغم أن الأمر يحزنني، إلا أنها بلغت سن الزواج الآن. كوالدة، لا أرغب في فقدانها، لكن من أجل مستقبلها، لا بد لي من التفكير في مصلحتها. لهذا أبحث لها عن رجل جيد لتزويجها."
صرحت سيسيل بنواياها بوضوح، وهي تتفحص تعابير السيدات. لحسن الحظ، بدا أن اهتمامهن قد أُثير. كما كان هناك من بينهن من قد يساعدها في تدبير زواج لإيلينا. سواء كان ذلك كزوجة ثانية لبارون ثري، أو حتى زوجة لتاجر غني يبحث عن شريكة، كانت كل الخيارات مفتوحة بالنسبة لسيسيل.
وحتى لو كان الخيار أن تصبح إيلينا عشيقة لأحد النبلاء، فلا مشكلة طالما يضمن ذلك المال.
نظرت سيسيل إلى إيلينا بعيون جشعة، ثم أضافت:
"آمل أن تعثر إيلينا على شريك زواج جيد. فطفلتي ليس لديها الكثير من الجشع."
فهمت السيدات تمامًا ما تعنيه سيسيل وما تسعى إليه.
...※※※...
عضّت إلينا على شفتيها بقوة.
لم تكن ترغب إطلاقًا في أن تُساق إلى مثل هذا المكان لتُعامل كدمية تعرض للآخرين. لكنها لم تستطع تجاهل سيسيل التي بدأت منذ الصباح تئن وتدعي الموت، خاصة عندما زجت باسم ليانا. وهكذا وجدت نفسها في هذا الوضع المزعج.
قبضت على ثوبها بشدة. كان الخصر الذي شدته سيسيل قسرًا يضغط عليها ويشعرها بالاختناق، كما أن الدوار لم يفارق رأسها.
كل ما أرادته هو الهرب من هنا بأسرع وقت ممكن. كان الرجال الذين يقتربون منها بفضول يربكونها، ولم ترغب إلا في الاختفاء.
كانت تدرك تمامًا السبب الذي دفع سيسيل لإحضارها إلى هنا. كان الحديث عن الزواج محور كلام سيسيل اليومي، لذا لم يكن غريبًا عليها. كانت متأكدة أن سيسيل الآن تتجول بين السيدات النبيلات تحاول بيعها وكأنها سلعة ثمينة.
لو لم تكن يد ليانا الصغيرة تتشبث بحافة ثوبها رافضة تركها، تلك الطفلة التي قد تجاوزت شفير الموت وهي تتنفس بصعوبة، لولا أن عيناها، المليئتان بالرغبة الجامحة في الحياة، قد نظرتا إليها بذلك الشكل…
أغمضت إيلينا عينيها بإحكام، ثم فتحتهما مرة أخرى.
وبينما كانت تحدق بلا هدف، التقت نظراتها فجأة بنظرات شخص ما. كانت عيناه بلون الأخضر الداكن، أشبه بظلال الغابات الكثيفة. شعره الفضي اللامع الأشعث قليلًا ينسدل على جبينه، وشفتيه الحمراء المرسومتان بخطوط رقيقة تضيفا لمسة ساحرة لمظهره. كان رجلاً وسيمًا لدرجة تخطف الأنفاس.
لكن حتى ذلك الرجل كان ينظر إليها كما لو كانت مجرد عرض ممتع.
احمرّت خدود إيلينا على الفور، وأخفضت رأسها بسرعة.
كانت تريد الهروب.
هذا المكان ليس مكانها.
...※※※...
في النهاية، عندما لم تستطع إلينا تحمل الإهانة أكثر، حاولت الهروب، لكن سيسيل أمسكت بمعصمها بقوة، وسألتها بحدة وبرود عما تفعله. دفعتها سيسيل إلى الخلف بينما كانت على وشك نزول الدرج.
هزّت إيلينا رأسها برفض، ودموع الغضب تملأ عينيها.
"لا أريد هذا، أمي…! هذا ليس صحيحًا. أرجوكِ، دعيني أذهب!"
"هل ستجعلينني أبدو أضحوكة أمام الجميع؟ لماذا تفعلين هذا، إيلينا؟ هل تريدين أن تري ليانا مطرودة إلى الشارع لتنام على الأرض الباردة؟"
كانت همساتها قاسية مثل السكاكين.
سيسيل، التي أمسكت بخناق إيلينا، ابتسمت بخبث. وبينما كانت إيلينا تحدق فيها بذهول، سقطت دمعة صامتة على خدها.
"عندما تأتي إلى حفلة راقية كهذه، عليكِ أن ترقصي، إيلينا."
دفعت سيسيل ظهر إيلينا إلى الأمام. وهرع الرجال الذين كانوا ينتظرونها نحوها، أو على الأقل هذا ما شعرت به إيلينا.
دفعتها سيسيل نحو أحد الرجال، واضطرت إيلينا إلى الإمساك بيده والصعود إلى حلبة الرقص. كان رجل تفوح منه رائحة ثوم قوية، مما جعلها تشعر بالغثيان.
بينما كانت ترقص معه، شعرت وكأنها تتحرك بلا وعي، وكأن قدميها تائهتان على الأرض. عندما رفعت رأسها، لم ترَ سوى ذقنه.
قال الرجل مبتسمًا:
"إنه لشرف لي أن أحظى بأول رقصة مع سيدة جميلة مثلكِ، إيلينا. سمعت أنكِ تبحثين عن زوج. أنا رجل لا يتمنى الكثير. وعلى الرغم من أنني كبير بالسن قليلًا، إلا أنني على استعداد لدعم أسرة زوجتي إذا كانت امرأة تتمتع بصحة جيدة ويمكنها إنجاب طفل لس. كل ما أحتاجه هو صبي يواصل سلالة العائلة."
شحب وجه إيلينا بشكل ملحوظ.
استمعت إلى كلماته بصمت، وهي تشعر بالاشمئزاز من رائحة الثوم التي تفوح من فمه، وما إن انتهت الموسيقى حتى تراجعت خطوة إلى الخلف بسرعة. حينها فقط استطاعت أن ترى وجه الرجل بوضوح.
'كبير قليلًا؟!'
بدا الرجل أكبر من والدها بعشر سنوات على الأقل!
'لابد أن والدتي فقدت عقلها بالتأكيد!'
ابتلعت إلينا ريقها بصعوبة، وحاولت الهرب مرة أخرى، لكن سيسيل أمسكت بها مجددًا.
"لماذا وجهكِ يبدو هكذا؟ يا فتاة، إلى متى ستتصرفين بكبرياء؟"
تجهمت سيسيل وقالت بغضب:
"حتى هذا الرجل كثير عليكِ! هل لديكِ مهر لتقدميه؟ أم عائلة لتدعمك؟"
صرخت إيلينا محاولة إقناعها:
"لا أحتاج للزواج، أمي. يمكنني أن أعيلكم! يمكنني…"
قاطعتها سيسيل بضحكة ساخرة:
"كم سيكفينا ذلك الفتات الذي تجنينه؟!"
دفعت إلينا إلى الحائط وكأنها تسوق أحد الماشية، وقالت ببرود:
"ذلك المال بالكاد يكفي لشراء أدوية أختكِ. هل تريدين أن تريها تموت أمام عينيك؟"
كانت إيلينا تعلم أن حديث سيسيل عن ليانا لم يكن بدافع الحب أو العاطفة. فقد كانت تهتم بمستحضرات التجميل أكثر من أدوية ابنتها. لكن، مع الأسف، كان ما تقوله صحيحًا.
"متى ستقام مأدبة كهذه مرة أخرى في هذا الريف البائس؟ اليوم هو فرصتكِ الوحيدة!"
أخفت سيسيل كل شيء عن إيلينا حتى لا ترفض الحضور مسبقًا. حتى أنها أنفقت مالاً على إصلاح الفستان وتعديل حجم الحذاء ليكون مناسبًا، كما وضعت مستحضرات التجميل التي اشترتها بسعر باهظ على وجه إيلينا.
كانت سيسيل ترى ما أنفقته كاستثمار، وتوقعت أن تعود عليها بأرباح كبيرة.
قامت سيسيل بسحب إيلينا لتسير خلفها بوجه يوشك على الانفجار بالبكاء، عاجزة عن فعل أي شيء.
Comments