عناق بين العوالم

الفصل الرابع: عناق بين العوالم

في البداية، كان الصوت خافتًا.

ثم أصبح أكثر وضوحًا، حتى شعرت به يتسرب إلى داخل كياني كالماء البارد في يومٍ حار.

أكان الصوت من داخلي أم من الخارج؟

من أين يأتي، وأين ينتهي؟

لا أستطيع أن أجيب.

ولكنه كان موجودًا، يلفني بهدوء، حتى بدأ كل شيء من حولي يهتز بأثره، دون أن أراه.

كنتُ أعلم في أعماقي أنه لا يمكن أن يكون هذا عالمًا حقيقيًا.

وإن كان كذلك، فما هو الحقيقي؟

هل كان ذاك المكان الذي تجول فيه الأفكار والذكريات هو "الواقع"؟ أم أن هذا الفضاء الذي أعيش فيه الآن هو الحقيقة؟

الأشياء بدأت تتشابك، والحدود بين عالمٍ وآخر باتت ضبابية.

تجاوزتُ الحدود العادية، تمامًا كما كنتُ أتجاوز لحظات الوعي في الأحلام.

لكني كنتُ أعيش هنا، في هذا المكان الذي يصعب تسميته.

أم أنني أعيش في كل مكان في ذات الوقت؟

بدأ الصوت يتضح أكثر.

كان بعيدًا، لكنه يقترب، ويشبه الصوت الذي نسمعه في لحظاتٍ غير مفهومة، تلك التي نشعر فيها أننا على وشك أن نعرف شيئًا مهمًا، لكننا لا نملك الكلمات لتفسيره.

كان ذلك الصوت يشبه همسات تأتي من مكان بعيد، كأنها رسائل بعيدة، أو إشارات مفقودة من زمن آخر.

كنتُ أشعر بها في أعماقي أكثر من أي وقت مضى، كأنني في حلمٍ نصف مستيقظ.

اقتربت خطوة، ثم خطوة أخرى، حتى شعرت أنني دخلت في شيء ما.

كأنني عبرت إلى عالم آخر من خلال تلك الخطوات، إلى مكان كان دائمًا هنا، لكني لم أره من قبل.

الأرض تحت قدمي ليست نفسها.

لم أكن أرى شيئًا ثابتًا.

الجو كان دافئًا، لكنه ليس من هذا المكان، أو هذا الزمن.

كأنني غادرت كل شيء كما غادر النهر صخوره، في لحظةٍ انتقلت فيها المياه إلى أفقٍ بعيد.

ثم جاء الصوت.

كان واضحًا الآن، كأن شيئًا يهمس في أذني، لكني لا أستطيع أن أميز الكلمات.

في البداية، شعرت أنه كان يصدر من داخل عقلي، وكأنني أنا من أنشأه، لكن بعد لحظة، شعرت بشيءٍ آخر.

أنه ليس صوتي.

ليس صوت أحد.

كان صوتًا موجودًا منذ الأزل، ينتمي إلى مكانٍ لا أستطيع تحديده، لكنه كان يُسمع في أعماقي كما لو أنه ينتظر أن يسمعه أحد.

صوتٌ حميم، يلفني بأجنحته، رغم أنه لم يكن بشريًا، ولا كان يأتي من مكان محدد.

أغمضتُ عيني، وفتحتها مجددًا.

كان الصوت هناك.

كنت أسمع، لكني لا أفهم.

إذن، لماذا لا أفهم؟

الزمن لا معنى له هنا.

كلما اعتقدتُ أنني قد وصلت إلى بدايةٍ جديدة، اكتشفت أنني أبدأ من جديد.

كل لحظةٍ تحمل بدايةً ونهاية، وكل نهايةٍ تحمل وعدًا ببدايةٍ أخرى.

تلك الدوامة التي بدأت تستدير حولي، هي نفسها التي كنتُ أعيش فيها منذ البداية.

هل كنت دائمًا في هذا المكان؟ أم أنني قد جئت إليه من أجل أن أكتشفه؟

وكيف لي أن أميز بين الدروب المضيئة والأخرى المظلمة، عندما كان كل شيء في هذا المكان مشوّشًا؟

خطوتُ خطوة أخرى.

وفي تلك الخطوة، شعرت بشيء غريب.

هل كان العالم يتحرك من حولي؟

أم أنني أنا من كنت أتحرك؟

كنت أتابع الحركة، ولكن شيئًا ما في داخلي توقف، وأدركت فجأة أنني أتحرك في مكانٍ لم أكن أراه.

فقد كانت الأرض تتماوج تحت قدمي، وكأنها كانت تتنفس مع كل خطوة أخطوها.

لا شيء ثابت هنا.

المكان ليس مكانًا واحدًا، ولا الزمان.

الهواء كان محملًا بشيء غير مرئي.

حركة غير مفهومة كانت تشق المكان وتتحرك في داخلي.

كأنني على عتبة شيءٍ كبير، لكنني لم أكن أستطيع أن أدركه.

الصور، الوجوه، الأماكن، والذكريات كانت تتداخل في رؤيتي، تمامًا كما تتداخل خيوط الضوء في عيون الناظرين.

لم أعد أعرف أي جزءٍ من هذا المكان هو الذي أعيش فيه.

ثم، فجأة، حدث شيء.

بدأت تتشكل أمامي صور غير واضحة، وكأنها تظهر وتختفي في آنٍ واحد.

أشخاصٌ يتجاوزونني في صمتٍ عميق، وكأنهم يمرون عبر طبقاتٍ من الزمن، لا يتوقفون ولا يلتفتون إليّ.

لكنني شعرت بهم، شعرت بهم بشدة، كأنهم يعبرون من خلالي.

هل كانوا جزءًا من هذا الفضاء؟

هل كانوا مثلي، يحاولون أن يكتشفوا هذا المكان الذي لا ينتهي؟

لكن شيء في داخلي كان يدفعني إلى الاستمرار.

كان شعورًا غريبًا، كأنني لا أستطيع التوقف حتى أكتشف هذا المكان كله، حتى لو كان ذلك يتطلب مني عبور الحواف، أن أتخطى ما هو معروف وأدخل فيما هو غير مرئي.

لقد تلاشى كل شيء فجأة.

الصور، الأشخاص، المكان، بدأوا يذوبون في الهواء.

حتى الصوت الذي كان يهمس لي، اختفى بشكلٍ مفاجئ.

بقيتُ في حالةٍ من الفراغ، أتنفس بصعوبة، كما لو أنني خرجت من هذا العالم تمامًا.

لكنني كنت أعلم أنني في مكانٍ ما.

في العدم، لا يمكن للوجود أن يكون مجرد غياب.

فجأة، تذكرت شيئًا.

كان صوتًا قديمًا، صوتًا كنت قد سمعتُه مرة قبل أن أبدأ كل هذه الرحلة.

كان الصوت يقول لي:

> "كل شيء في هذا العالم هو جزءٌ منك، وكل شيء أنت جزءٌ منه."

ولكنني لم أستطع أن أرى ذلك في لحظتي تلك.

كان العالم، في النهاية، سلسلة من الحلقات المتشابكة، يمر كل شيءٍ بها فقط ليعود مرة أخرى.

هل كان ذلك هو المفهوم الذي كنت أبحث عنه؟

هل كنت في وسط كل هذه الصور والتشابكات فقط لأفهم أنني جزءٌ من شيء أكبر؟

لكن أية فكرة؟ وأي شيء؟

وفي تلك اللحظة، أدركت.

أنني لا أحتاج إلى إجابة.

أنني كنت أبحث عن شيءٍ لم يكن يحتاج إلى البحث.

أنني كنت أعيش في وسط الفوضى كي أتعلم أن الحياة نفسها هي المعنى، وأن السلام لا يعني الفراغ، بل يعني أن أسمح للظلال والنور أن يعبروا في داخلي، وأن أعيش معهم.

وهكذا، بدأت أسمع الصوت مرة أخرى.

لكن هذه المرة لم يكن مجرد همسات.

لقد كان صوتًا مليئًا بالسلام.

وما إن أغشيته، حتى فهمت:

> "أنت لست ضائعًا، أنت تعبر فقط."

شعرت بأنني أصبح أكثر امتلاءً، وكأنني أدركت أخيرًا أنني جزء من هذا المكان وهذا الزمن، وداخل هذه المتاهة التي تدور حولي.

كنت أتحرك، لكنني لا أحتاج إلى وجهة.

كنت مجرد نقطة، وأصبحتُ اللامكان.

لا حاجة للخروج.

---

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon