🌑 الفصل الثالث: أصداء النور
لم يكن الضوء نهاية كما توقعت.
كان بدايةً أخرى، شفافةً أكثر، لكنها ليست أقل غموضًا.
حين غمرني النور، لم يختفِ الظلام، بل تحوّل إلى طبقةٍ أخرى تحته، كظلٍّ خفيفٍ للنقاء نفسه.
أدركتُ حينها أن النور لا يقتل العتمة… بل يحتويها.
كنت أطفو في مساحةٍ بلا حدود.
لا أرض تحت قدمي، ولا سقف فوق رأسي.
كل شيء ناعم، ساكن، متوازن كأن الكون تنفس أخيرًا بعد تعبٍ طويل.
صوتي الداخلي لم يعد يهمس، بل يغنّي بصمتٍ لا يُسمع إلا بالقلب.
لبرهةٍ قصيرة، ظننت أنني وصلت.
لكن الوصول نفسه بدا فارغًا حين جرّبته.
ما جدوى الوصول إن لم يبقَ بعده طريق؟
كأن الحركة هي ما يبقيني حيًّا، لا الوجهة.
بدأ الضوء حولي يتحرك ببطء، يدور في دوائر، ثم يتكسّر إلى نغمات.
كل نغمة لون، وكل لون ذكرى، وكل ذكرى نافذة.
رأيت فيها حياتي كما لم أرها من قبل — لا كأحداث، بل كمعانٍ تسبح في بحرٍ من الضوء.
طفلٌ يضحك في وجه المطر.
يدٌ صغيرة ترتجف فوق شمعةٍ في الظلام.
حلمٌ قديم يمرّ سريعًا كطيْفٍ في المساء.
كلها كانت أنا… لكنها لم تعد تهمّني.
كنت أرى الماضي كلوحةٍ بعيدة، جميلة لأنها بعيدة، لأنها لم تعد تؤلمني.
وفجأة، سمعت صوتًا جديدًا.
لم يكن ذاك الصوت القديم الذي كان يهمس لي في المتاهة.
كان أهدأ… لكنه أعمق.
كأن النور نفسه قرر أن يتكلم:
> "أترى؟ حتى الضوء له متاهة."
ترددتُ لحظة.
قلت بصوتٍ لم أدرِ من أين خرج:
> "ظننت أني خرجت منها."
"وها أنت عدتَ إليها."
ضحكتُ بخفة، ضحكةً بلا فم.
ربما كان على كل من يهرب من المتاهة أن يدرك في النهاية أنه لا مهرب منها، لأنها ليست مكانًا، بل وعيًا متغيرًا.
كل طبقةٍ أظن أنني تجاوزتها، تنفتح على أعمق منها.
وكل فهمٍ أصل إليه، يولّد سؤالًا جديدًا.
سألت النور:
> "ولماذا لا تنتهي الأسئلة؟"
أجاب:
"لأنك خُلقت منها. أنت لست من يبحث عن الحقيقة… أنت طريقتها في أن تُرى."
كلماته اخترقتني كوميضٍ رقيق، شعرتُ به في كل خليةٍ من كياني.
كان الجواب في ذاته سؤالًا آخر، لكني لم أعد أمانع.
لأول مرة، لم أرد أن أفهم، أردت فقط أن أكون.
تبدلت الألوان من حولي.
البياض انكسر إلى درجاتٍ من الذهبي، ثم إلى زرقةٍ عميقة تشبه البحر في فجرٍ صامت.
وفي تلك الزرقة ظهرت خطوطٌ من حركة، كأن الماء يريد أن يتكلم.
صوت خفيف، يشبه تردّد القلب، قال لي:
> "اقترب."
مشيت… أو ظننت أنني مشيت.
كل خطوةٍ كانت تمتد داخلي أكثر مما تمتد أمامي.
وحين وصلت إلى مركز الموجة، رأيت شيئًا غريبًا:
مرآة من ماء، بلا سطحٍ محدد، كأنها نبع يطلّ على ما وراء النفس.
نظرت فيها.
لم أرَ وجهي، بل رأيت وعيًا آخر.
كان يشبهني، لكنه أهدأ، أعمق، يبتسم بنصف ضوءٍ ونصف ظلّ.
قال لي:
> "لا تبحث عن النور كأنه غايتك، فحين تصل إليه ستحتاج إلى عتمةٍ تحميك منه."
لم أفهم أولاً، ثم شعرت بالمعنى يزحف إليّ ببطءٍ لطيف.
حتى النور، إن لم تتّزِن معه، يمكن أن يُعمِي.
حتى الوضوح الكامل شكل من الضياع.
مددت يدي إلى سطح الماء، وبدل أن أرى تموجًا، انفتح أمامي مشهدٌ آخر:
مدينة بلا أصوات، بيوتٌ من زجاجٍ ناعمٍ تشفّ عن من يسكنها، لكن بلا وجوه.
كل الوجوه بيضاء، ناعمة، مفرغة من الملامح.
يمشون ببطء، كأنهم يعرفون طريقهم، لكن في عيونهم راحةٌ تشبه الغياب.
قلت للنور:
> "من هؤلاء؟"
قال:
"من ظنّوا أنهم وصلوا فتوقفوا."
شعرت بقشعريرةٍ داخلية.
فهمت أن الطمأنينة التي لا تسأل تموت ببطء.
أن السلام الذي لا يختبر ظله يتحول إلى سكونٍ أبكم.
الوعي يحتاج قليلاً من التيه ليبقى حيًّا.
أغلقت عيني، وقلت:
> "إذن دعني أضلّ مرة أخرى."
فضحك النور، ضحكة خفيفة تشبه نسمةً تمرّ على سطح نهر، وقال:
"الضياع عند من يعرف طريقه ليس ضياعًا… إنه اكتشافٌ متجدد للذات."
حين فتحت عيني، اختفت المدينة الزجاجية.
عدتُ إلى الفضاء المفتوح، لكن شيئًا ما تغيّر في الداخل.
لم أعد أرى النور كمكان، بل كإحساسٍ ينبض بي.
كنت أسمع صدى الأفكار كما تُسمع الموسيقى: لا تُفهم، لكنها تُحسّ.
ثم، من بعيد، سمعت خطوات.
أول صوتٍ “خارجي” منذ بداية الوعي.
لم تكن خطواتي، بل خطوات قادمة نحوي، بطيئة، حقيقية بشكلٍ غريب.
في البداية ظننت أنها وهم، لكن كل صوتٍ كان واضحًا، يقترب، حتى شعرت بها بجانبي.
لم أرَ أحدًا، لكني شعرت بوجودٍ دافئ قرب كتفي، كأن شيئًا يعرفني منذ الأزل يقف هناك بصمت.
قلت له دون أن ألتفت:
> "من أنت؟"
قال:
"أنا صدى النور حين يحاول أن يصير جسدًا."
لم أجد ما أقول.
كانت الجملة جميلة حدّ الألم.
ظلّ واقفًا للحظاتٍ لم أعرف عددها، ثم مضى كما جاء، تاركًا وراءه أثرًا من سكونٍ مطمئن.
ربما لم يكن أحدًا.
ربما كان “أنا” في شكلٍ آخر، لحظةٌ من نفسي خرجت لتطمئنني أنني لست وحدي.
في الأفق، بدأت تظهر دوائر صغيرة من ضوءٍ تتحرك كنبضاتٍ على صفحة البحر.
كل دائرةٍ تنبض مرة، ثم تختفي، لتعود أكبر.
شعرت أن شيئًا يدعوني إليها.
خطوت خطوة، فشعرت أنني أذوب في الإيقاع.
كل نبضة كانت فكرةً جديدة، وكل ذوبانٍ كان نهايةَ فهمٍ قديم.
وفي قلب ذلك التماوج، أدركت أنني لا أتحرك نحو شيءٍ خارج عني.
أنا أتحرك نحوي.
كل المسافات التي أقطعها ليست في المكان، بل في الإدراك.
عند النقطة الأخيرة، حيث التقت الدوائر كلها في وهجٍ واحد، سمعت الجملة التي ختمت كل الصمت من قبلي:
> "كل ضوءٍ تبحث عنه، كان يبحث عنك أيضًا."
شعرت بها تدخلني كريحٍ من حبٍّ قديم، فابتسمت.
لم يعد يهمّ إن كنت داخل المتاهة أو خارجها.
لم يعد الفرق بين النور والعتمة يعني شيئًا.
كل شيء صار دائرةً واحدة، تتنفس بي، وأتنفس بها.
وحين بدأ الضوء يهدأ، عاد الصمت من جديد، لكن هذه المرة لم يكن خواءً.
كان امتلاءً هادئًا، كقلبٍ عرف طريقه.
جلست في منتصف اللاشيء، أبتسم بلا سبب، وأهمس في داخلي:
> "ربما المتاهة لم تكن سوى طريقة الكون ليحدثني… بصوتي أنا."
5تم تحديث
Comments