نسيج العوالم
في هدوءٍ قاسٍ في الأدغال، وأصوات الرياح تهمس في الأشجار، ونجوم ساطعة في السماء الملوّنة بالأجرام، كانت هناك عائلة مكوّنة من خمسة أفراد، يجلسون حول نار مشتعلة، يستمعون إلى حكاية أكبرهم عن الزمان، وكيف شاءت الأقدار أن يكون معهم في هذا الوقت والمكان.
قال الجد تولين: "في هذه الأرض عشتُ كل حياتي. كنتُ جنديًا ذات يوم، وشاركتُ في أكبر الحروب منذ حرب الأجداد حرب إرلارا العظمه الثانيه. ربما سمعتم عنها، لكن صدقوني، من عاشها لا يستطيع أن ينساها، ولو بعد ألف سنة."
ثم يضحك الجد تولين، ويمد يده إلى ذقنه، ويقول: "أتذكر أنه في أحد أيام الحرب، وبعد مرور ثلاثة أشهر على بدايتها، قابلت فتاة ريفية. كنا في مهمة، أنا وبعض الشبان. أقربهم إليّ كان شابًا يُدعى مارن، كان مضحكًا جدًا، لكنه مات في هذه الحرب."
تذرف عيناه الدموع، ويقول: "لو كان معي الآن، لاكتشفنا هذا العالم بأسره." ثم يسكت قليلًا، ويمسح دموعه بيديه المرتجفتين، ثم يعود إلى ابتسامته الخفيفة.
قال: "أين كنا؟" فترد عليه حفيدته رينا، وعلى وجهها تعاطف واحمرار خفيف في الخدين، وتقول بصوت خافت: "كنتَ عند الفتاة الريفية."
يضحك الجد بصوت عالٍ ويقول: "أوه، نعم، أنتِ محقة! لطالما كانت ذاكرتك قوية." فيضحك الجميع وتغمرهم البهجة.
قال الجد: "نعم، كنا بالقرب من أرض فلورن، في مهمة استطلاع سرّية تابعة لنظام التحالف. كانت الدروع ثقيلة لدرجة أننا كنا نتحرك كحيوان الكوالا، نمشي مثله تقريبًا، لكن بالطبع لا على أربع أرجل. في الطريق، سمعتُ صوت أقدام، فأشرتُ للجميع أن يتوقفوا، ثم تحركتُ بهدوء بين الأشجار، وهناك رأيت أجمل ما رأته عيناي: فتاة ذات شعر ذهبي لم أرَ مثله من قبل. عيناها زرقاوان كأنهما قادمتان من السماء، ووجهها؟ لا أستطيع وصفه... كانت كملاك بلا أجنحة. ضوء الشمس كان يعكس عليها كأنها مرآة، ووقفتُ مذهولًا حتى ظن أصدقائي أنني تحت التهديد، لكن الحقيقة أن قلبي هو من كان مهددًا."
"لم أفق إلا عندما نادتني عدة مرات: (أنت! أنت!)، ثم هززتُ رأسي وقالت: (ماذا تفعل هنا؟) فأجبت متلعثمًا: (لقد... كنا نبحث...)، ثم سكتُّ، كأنني نسيتُ من أكون. قلتُ: (نبحث عن مأوى لهذه الليلة)."
فيرد مارن مازحًا: (لا، لا نبحث!)، فأعطيته ضربة في بطنه وقلت: (نعم، نحن نبحث! ألا ترى أن الشمس توشك أن تغرب؟)."
قالت وهي تبتسم: (انتظروا قليلاً، سأنادي أبي)، فقلت لها: (نعم، من فضلك، شكرًا). كنت كالأبله حقًا.
ثم خرج أبوها، كان ضخم البنية، لكن على عكس ما توقعنا، كان لطيفًا ومرحّبًا. أحضر لنا طعامًا وشرابًا، وجهّز لنا مكانًا نبيت فيه.
في اليوم التالي، أكملنا مهمتنا لاستكشاف مواقع قوات ملكوث. وفي هذه المهمة، مات مارن. أنا واثنان آخران نجونا بأعجوبة. كانت أيامًا شاقة بحق.
سأل حفيده نيم: "وماذا عن تلك الفتاة؟"
فقال الجد: "لم أقابلها بعدها أبدًا. لا أعرف حتى اسمها. كل ما أعرفه أنها كانت أجمل ما رأيت."
فيرد نيم ضاحكًا: "وماذا عن جدتي؟ أراك لمعت عيناك عند الحديث عنها!"
فيضحك الجد ويقول: "جدتك؟ ومن يمكنه أن يأخذ مكانها في قلبي؟ تلك الفتاة كانت لحظة عابرة، أما جدتك، فقد شاركتني الحياة كلها. فكيف لي أن أنسى.؟ اسمع، سأعطيك نصيحة: الحب الحقيقي لا يأتي من الجمال. من تحبه حقًا هو من ترى عيوبه، ويرى عيوبك، وإن استطعتم التعايش مع تلك العيوب، ففي تلك اللحظة فقط يمكنني أن أقول إن هذا هو الحب الحقيقي."
ساد صمتٌ جميل بعد كلماته، والجميع ينظر إلى السماء ويتأمل.
وبعد لحظات من التأمل، خطر في بال رينا سؤالٌ قديم: "لماذا تمنعوننا من دخول الغابة المجاورة لنهر سنر؟ رغم جمال الأشجار والزهور التي نراها من بعيد، تقولون لنا دائمًا إن تلك الغابة لا يدخلها أحد. لماذا؟"
طأطأ الجد رأسه كأن السؤال أثقل كاهله، ثم رفع عينيه إليها وقال بصوت حازم: "لا أحد يعلم."
تفاجأ الجميع، وقال مسترون بنبرة ساخرة: "لا تعرف؟ ولا أحد يعرف؟ من يمكنه أن يصدق أن غابة كاملة لا يدخلها أحد، ولا أحد يعرف السبب؟ أنتم العجائز تحبون فرض القوانين دون مبررات! سئمت العيش في هذه البلدة المحاصرة بقوانين تافهة!"
فردّ عليه الجد بغضب شديد، وعيناه تقدحان شررًا: "اصمت، وإلا قطعت لسانك! أتظن أنك كبرت بما يكفي لتفعل ما يحلو لك؟ والذي خلقني، لو كررت هذا الكلام، لسجنتك، ولما رأيت النور مجددًا!"
فقالت رينا وعيناها تملؤهما الرهبة: "ما بالك؟ لم أرك غاضبًا هكذا من قبل. ربما أخطأ مسترون، لكنك بالغت في الغضب. أهناك أمر تخفونه عنا عن تلك الغابة؟ أليس من الأفضل أن نعرف ما يختبئ فيها لنحذر مما قد يواجهنا؟"
فردّ عليها وهو يمسح من على فمه بقايا اللعاب التي خرجت مع كلماته الغاضبة: "لا يجب أن تعرفوا ما هناك... لأن الحقيقة أن لا أحد يعرف سوى عدد قليل: الملوك، الحكماء، وربما بعض الأمراء. لكن حتى بعضهم يجهل ما يكمن داخلها. كل ما نعرفه يقينًا، أن من يدخل الغابة لا يخرج. لا نعلم إن كان ميتًا أم تائهًا... فقط نعلم أن من يدخل لا يعود. هذه هي القاعدة الوحيدة التي نعرفها عنها."
سأل مسترون، لكن هذه المرة بنبرة أكثر هدوءًا: "إذاً، لماذا ترسل بعض القرى المجاورة رحلات استكشافية؟"
فرد تولين: "الطمع في السيطرة، يا بني. بعضهم يظن أن بمقدورهم امتلاك الغابة رغم سحرهم الضعيف. لكن حين يتملك الغرور النفس، يعمي البصيرة، ويشلّ العقل. تذكّروا هذا جميعًا: لا تدعوا طمعكم يقودكم إلى التهلكة. إذا أردتم شيئًا، لا تسعوا خلفه لإرضاء رغباتكم فقط، بل فكّروا: هل لهذا الشيء عواقب؟ عليك وحدك؟ أم على من تحبهم أيضًا؟ تذكّروا أن حولكم من يحبكم، وسيحزن على فراقكم كما تحزنون أنتم عليهم."
قالت رينا مبتسمة: "هذا هو جدي الذي نعرفه! لا يتوقف عن إلقاء النصائح!"، ثم أضافت مازحة: "إنه ممل بعض الشيء، لكن ماذا عسانا نفعل؟ إنه جدي في النهاية."
فضحك الجميع... إلا مسترون، الذي ظهر الاحمرار على وجهه شديد البياض، ثم نهض دون أن ينطق بكلمة، ومضى بعيدًا. نادت عليه رينا لكنه لم يجيب عليها ولم يظهر أي اهتمام.
Comments