تناولوا قليلًا من شوربة النوربية، وهي مزيج فريد من سمكة النوربية، مضاف إليها بعض الطحالب البحرية والملح الأصفر. كانت الشوربة دافئة، برائحتها المالحة البحرية الغريبة، وكأنها تحمل نكهة البحر نفسه. بعد العشاء، تفرّق الجميع إلى أماكن نومهم، يحمل كل منهم أفكاره الخاصة وهمومه التي ترافقه في الصمت.
وفي طريق العودة، توقفت رينا فجأة.
رائحة غريبة تسللت إلى أنفها، قادمة من تحت حجر ضخم. رائحة زهور الفردوس، جميلة، ساحرة، ولكنها مزعجة… وكأنها تُغريك لتقتربي ثم تدفعك بعيدًا في اللحظة التالية.
ترددت. قلبها ينبض بتوجس، لكن الفضول غلبها، فانحنت بكل حذر، وأزاحت الحجر الثقيل.
ويا للمفاجأة...
بئر عتيق انكشف أمامها، لم تره من قبل، ولم تسمع أحدًا يذكره.
أخرجت مصباحها المشتعل. ارتدّ نور اللهب في عينيها، فعكست عدستاهما بريقًا فضّيًا لامعًا.
قالت في نفسها، وهي تنظر إلى فتحة البئر:
ـ أأذهب إلى القرية؟ أم... أنزل؟
الفضول كان كالسجن يطبق على صدرها، لكنها، رغم ذلك، قررت أن تغلق البئر إلى أن يحلّ الصباح.
لكن خطوات خفيفة اقتربت من الظلال...
وامتدت يد تمسك بها من معصمها، بقوة جعلت بشرتها تحمرّ.
شهقت.
ـ مـ... مسترون؟
قال بصوت خفيض، بالكاد يُسمع:
ـ ماذا تفعلين هنا الآن؟ لماذا لم تذهبي إلى النوم؟
تصبّبت رينا عرقًا، وارتجف جسدها من شدة المفاجأة. قلبها خفق بقوة، وقالت بصوت مرتفع متوتر:
ـ لماذا تمسك يدي هكذا؟ أتركني فورًا!
أدرك الموقف وترك يدها بسرعة، لكن علامات أصابعه بقيت واضحة على جلدها. بدا عليه التوتر أيضًا، وكان يبلل جبهته بالعرق.
قال لها بنبرة مشدودة:
ـ من قال لكِ عن هذا البئر؟ وكيف عرفتِ مكانه؟
نظرت إليه للحظات، وعيناها تتفحصان ملامحه المرتبكة، ثم فهمت…
هذا البئر هو مخبؤه. المكان الذي يختفي فيه دائمًا حين يغيب عن القرية.
فقالت له، والابتسامة ترتسم على شفتيها، رغم ارتباك الموقف:
ـ إذًا… هذا هو بئر أسرارك؟
لكن وجه مسترون بقي جامدًا، جديًا.
قال لها بصرامة:
ـ عودي الآن، ولا تخبري أحدًا عن هذا البئر. مفهوم؟
رفعت حاجبيها وتراجعت خطوة، وقالت بعناد:
ـ لن أذهب إلا إذا عرفتُ ما بداخله.
فأجابها بحدة:
ـ لن تعرفي ما في هذا البئر.
نظرت إليه بثبات، ثم فجأة رفعت صوتها قائلة:
ـ يا أهل القرية! تعالوا وانظروا ماذا يوجد هنـ...
لكن مسترون أسرع بوضع يده على فمها، وقال بصوت غاضب لكنه منخفض:
ـ حسناً، كما تريدين... لكن تذكري، ما ترينه في الأسفل... تنسينه في الأعلى.
نظرت إليه وهي تبتسم بمكر، ثم حاكت على فمها حركة بإصبعيها وكأنها "تخيط فمها" بخيط غير مرئي.
قال لها بعدها بهدوء:
ـ أزيحي تلك الشجرة الصغيرة هناك.
فما إن فعلت، حتى ظهر حبل طويل مصنوع من لحاء الأشجار.
قال:
ـ هل تعرفين كيف تنزلين باستخدام الحبال؟
ردّت بابتسامة واثقة:
ـ طبعًا! تعلمت ذلك العام الماضي عندما كنت في رحلة تخييم مع مستر مرون كيمستر في جبال الأركمين. كانت رحلة مذهلة.
قال وهو يهز رأسه باقتناع:
ـ جيد، سأذهب أولًا، ثم تتبعينني.
ضحكت وقالت:
ـ مظهرك وأنت مرعوب… مضحك جدًا.
ردّ ساخرًا وهو يبتسم بخفة:
ـ هه… أنتِ لطيفة جدًا فعلًا.
ثم بدأ في النزول، بينما كانت تنظر إليه من الأعلى، يتلاشى ضوء مصباحه تدريجيًا، حتى لم يتبق منه سوى نقطة باهتة بالكاد تُرى.
ثم صعد صوته من الأعماق:
ـ الآن!
أمسكت رينا الحبل الخشن بكلتا يديها، وبدأت النزول بحذر.
الهواء صار أكثر رطوبة، والجدران حولها صارت زلقة، غير منتظمة. كانت الحجارة قاسية وباردة، والضوء يختفي شيئًا فشيئًا.
كلما نزلت، ازدادت رائحة الزهور الغامضة قوة، وكأنها تدخل عالمًا مختلفًا، عالمًا لا تحكمه الشمس ولا القمر.
وفجأة...
انزلقت قدمها على حجر مبلل، وكادت أن تسقط.
صرخت وهي تتمسك بالحبل بشدة.
شعرت بألم حارق في كفيها، وبدأ الدم يسيل من راحتيها بفعل الخدوش.
صرخ مسترون من الأسفل، وقلق واضح في صوته:
ـ رينا! هل أنتِ بخير؟
أجابت، وهي تلهث بصعوبة:
ـ نعم، مجرد انزلاق طفيف…
لكنها لم تكمل جملتها، إذ سمعت صوت خشخشة خفيفة من الأعلى…
نظرت إلى الأعلى، عيناها تتسعان رعبًا.
الحبل…
ينقطع.
حاولت النزول بسرعة، لكن الوقت لم يسعفها.
انقطع الحبل.
وسقطت سقوطًا حرًا.
كل شيء حولها كان يبتعد...
الهواء يصفرّ، الجدران تندفع كأنها تبتلعها.
صرخة مكتومة تخرج من صدرها، والعالم كله يتباطأ.
إنها ميتة لا محالة...
Comments