الصيف الأخير
...الـفـصـل الآول...
...•••...
...كان يوماً عادياً،...
...يوماً لا يختلف في ظاهره عن سائر الأيام، حين أشرقت الشمس بهدوء، كما اعتادت أن تفعل كل صباح....
...وكانت نسمات الفجر تعجُّ بزقزقة عصافير «اليابان وايت آي» خارج نافذتي الصغيرة، وكأنّها تغني لحناً للحياة التي بالكاد تتحرك داخلي....
...استعصى جسدي على النهوض، كأن ثقلاً خفيّاً كان يشدني إلى الفراش....
...بخطوات متثاقلة، فتحتُ جهاز طهي الأرز، لكنّني أغلقتها على الفور، إذ لم أجد في نفسي رغبةً بالأكل....
...كان السكون الذي يملأ أرجاء المنزل خانقاً، يلتفّ حولي كغلالة من همسٍ ثقيل....
...يومٌ رتيبٌ آخر......
...يومٌ مرهق تتآكل فيه الروح....
...لبرهةٍ خطرت لي فكرة البقاء حبيسة الجدران، لكنّ خشية الغرق في مللٍ قاتل جعلتني أرفضها وأهزّ رأسي برفض....
...قررتُ أن ألجأ إلى الدفء، أن أغسل عن جسدي هذا الخمول الكئيب، فأعددتُ حماماً دافئاً....
...رغم حرارة الصيف ولهيبه، وكنتُ أكره إهدار الوقود اللازم لتسخين الماء، إلا أنّني لم أحتمل الاستحمام بالماء البارد....
...مع تقدّم العمر، بات النوم سراباً ألاحقه ليلاً دون جدوى....
...أتقلّب تحت وطأة العرق والسكون، لأستيقظ بجسدٍ مبلل، أثقلته الليالي الخالية....
...رغم حرصي على النظافة، باتت روائح غريبة تتسلل من جسدي بسرعةٍ أذهلتني....
...كانت صدمة لا توصف أن أدرك أنّ رائحتي لم تعد تحمل عبق البحر الجنوبي الذي نشأتُ عليه....
...وهكذا، كما لو كنت أؤدي طقساً قديماً أو طهارةً خفية، أخذتُ أغتسل بعناية وحرصٍ شديد....
...تأملتُ جسدي العاري، هذا الجسد الذي كان يوماً ما نحيفاً مرناً، وتحول مع الزمن إلى شيء ثقيل متهالك، ككيس رملي بالٍ....
...ومع ذلك، كان هذا الجسد جزءاً من رحلتي، حملني سبعين عاماً، وعاش معي كل نبضٍ وكل تنهيدة....
...سـبـعـون عـامـاً......
...يا له من رقمٍ عجيب!...
...كيف انقضت الأيام بهذه السرعة؟...
...لقد مضت السنوات التي كنت أظنّها بطيئة مُنهكة، حتى لم تترك خلفها أثراً، ولا ظلاً أستدلّ به عليها....
...خرجتُ من الحمّام، جففتُ جسدي، وارتديتُ ملابسي القديمة التي التصقت بي كرفيق عمرٍ صامت....
...غسلت ملابسي مئات المرات، لكنها كانت لا تزال تحتفظ برائحتي، تلتصق بجسدي كأنها جلد ثانٍ....
...متى كانت آخر مرة اشتريت فيها ملابس جديدة؟...
...أو هل امتلكتُ يوماً ملابس جديدة؟...
...لمحتُ طرف الصندوق الخشبي فوق الخزانة، سرعان ما أشحتُ ببصري عنه، كأنني أخشى ما يحويه من ذكريات....
...وقفتُ أمام المرآة، أحدق في وجهي الذي أعرفه جيداً، ومع ذلك بدا غريباً عني....
...سرّحتُ شعري الذي أصبح أبيض كالثلج. عندها رنّ الهاتف....
...آه، مـکـالـمـة!...
...كم مضى من الوقت منذ آخر مرة اتصل بي أحدهم؟...
...لم أستطع تذكّر مكان هاتفي، وفجأةً غمرتني موجةٌ من الارتباك، بحثتُ بعيني المتعبة في أنحاء الغرفة، حتى وقعت نظرتي على حقيبتي القديمة....
...أسرعتُ إليها، فتشتُ بداخلها، حتى عثرتُ على الهاتف....
...هل يمكن أن تكون ابنتي؟...
...لكن الاسم الذي ظهر على الشاشة لم يكن اسمها،...
...بل كان اسم حفيدتي....
...••••...
...الـفـصـل الـثـانـی...
...---...
..."جدتي... لقد التقيتُ بمن أريد أن أتزوجه."...
..."حقًّا؟"...
...ارتفع صوتي باندهاشٍ، وانفرج صدري كزهرةٍ ترتوي بغيثٍ مفاجئ....
...كانت السعادة التي غمرتني غريبةً عن تلك البساطة التي عرفتها في صغري؛ كانت خليطًا آسرًا من الزهو، والحنوّ، والحزن العميق الذي لا تسمع أنينه إلا روحك....
...آهٍ، لِمَ تتعقد المشاعر كلما مرّ بنا قطار الزمن؟...
...في طفولتنا، كانت السعادة نقيّة كجدولٍ جارٍ، أما الآن، فهي نهرٌ تتشابك فيه ينابيع الحنين والندم والفخر....
...ومع ذلك، كانت سعادتي صادقةً لا مراء فيها....
...وكيف لا، وحبيبتي يوجين، زهرة قلبي، تهمس لي ببدايةٍ جديدة لحياتها؟...
..."يا لها من بشارة! ومن يكون هذا الذي سكن فؤادكِ، صغيرتي؟"...
...ضحكت حفيدتي بصوتٍ متوهج وقالت:...
..."شخصٌ رائع، جدتي... رائعٌ بحق. ونحن الآن في طريقنا إليكِ. أردناها مفاجأة، لكن خشيتُ عليكِ من وقعها، فآثرت أن أنبئكِ. أنتِ في المنزل، أليس كذلك؟"...
..."بلى، بلى! أين أنتما الآن؟"...
...أية سعادةٍ أعظم من قدوم حفيدتي مع رفيق دربها؟...
...كيف كبرتِ يا يوجين حتى صرتِ عروسًا تُزفُّ إلى حبيبها؟...
...غير أن صوتًا قديما ارتدّ في أذني كسهمٍ مسموم:...
...> "لن أعود إلى هنا ثانية... لا أريد أن أراكِ مجددًا، أمي."...
...كانت تلك ابنتي، جي-يون، وقد حفرت كلماتها أخاديد داميةً في قلبي....
...اسمها، الذي لم أقوَ على نطقه، ظل شوكةً مغروسة في أعماقي لا تذبل....
...يوجين......
...هــل كـانـت أمـكِ قـادمـة مـعـكِ؟...
..."سنصل عند الظهيرة، جدتي. هيا، لنخرج معًا ونتناول غداءً شهيًّا. ولا تجرئي على الأكل قبلنا!"...
...ضحكتُ والحنين يثقل صوتي: "ومن أين لي أن أذهب؟ ستعدّ جدتكِ لكما مائدةً تليق بمقامكما."...
..."لا يا جدتي! لا تتعبي نفسكِ. فرحتكِ وحدها تكفينا."...
...فـرحـتـي......
...ألم يكن جديرًا بي أن أفرح؟...
...ابتسمتُ وكأنها أمامي، تحدق في وجهي بضياء عينيها، بينما الدمع يسيل في قلبي دون أن يراه أحد....
..."كفى حديثًا، عودا سريعًا. سأُعدّ طعامًا بسيطًا هنا، في المنزل."...
...ضحكت يوجين ضحكتها العذبة، رنينها كجرسٍ بلله المطر....
...يا لبهاء قدوم الزائرين!...
...قلبي، الذي ألف الصمت الطويل، نبض فجأة كحديقةٍ أزهرت بعد سبات....
...جسدي المتعب استعاد خفةً لم يعرفها منذ دهر....
...ماذا أفعل؟ بأي شيء أبدأ؟...
...هرولتُ عبر الغرفة جيئةً وذهابًا....
...سأنتعل حذائي الجديد، ذلك الذي ما مسّه غبار....
...ثم، كيف يكون الفتى الذي اختارته صغيرتي؟...
...يوجين... كانت دومًا زهرةً بين أشواك العالم، ذكيةً، ناعمة القلب....
...ذهب إلى الولايات المتحدة، درست في أعرق الجامعات، وجدت طريقها إلى واحدةٍ من كبريات دور الأزياء، مثلما كانت أمها ذات يوم مبدعةً بين أقرانها....
...طافت يوجين بين البلدان، وارتقت إلى مرتبة قائدة فريق، واحترمها الجميع لطموحها وإبداعها....
...ولم يكن الزواج يعني لها الكثير وسط طموحاتها، مثلها مثل كثيرين من جيلها، الذين باتوا يعدّون الزواج قيدًا لا سبيلاً إلى السعادة....
...كنا كثيرًا ما نهمس في متجرنا الصغير: "لا تفتحوا باب الحديث عن الزواج للشباب، دعوهم يأتون به حين يشاؤون."...
...كنت أقول في نفسي، مزهوةً بتجربتي:...
...'لو خُيّرت ثانيةً، لما وطئتُ درب الزواج.'...
...من ذا الذي يرغب في قيودٍ، وعالمٌ كامل ينتظر أن يُكتشف؟...
...تعمل، تسافر، تحب كما يحلو لكَ، بلا قيود ولا حدود....
...لكن إن كانت يوجين قد وجدت حبّها، وسعادتها فيه، فلن أكون إلا أول المباركين....
...سرحتُ بعيدًا في أحلامي، فلم أرَ الحجر الذي اعترض طريقي، فتعثرت، وكدت أهوي أرضًا....
...امتدت يدي تستنجد بالجدار، وتألّم معصمي من أثر السقوط....
...آهٍ، كم يخذلنا الجسد حين تسرح بنا الروح بعيدًا......
...نسيم يوليو الدافئ لامس عنقي، والعرق بدأ يخط سطوره على ملابسي....
...لا بد أن أبدو أنيقةً، مشرقةً، أمام زوج حفيدتي المنتظر....
...رفعت رأسي بقوة، وقلت همسًا: "سأنجح."...
...أمامي، امتد المشهد المعتاد، وكأنه لوحةٌ قديمةٌ لا تبهت ألوانها:...
...جدرانٌ يتدلّى منها عبق أزهار البوق البرتقالية، وأعمدة كهرباءٍ مائلة تحضن البحر الأزرق الخفي بين ذراعيها....
...ذلك البحر... الذي عشتُ على ضفافه عمرًا....
..."أمــي!"...
...سمعت الصوت ينبثق من أعماق الذاكرة....
...تخيلت طفلةً تركض نحوي من بين الأمواج، شعرها قصيرٌ يلامس جبهتها، عيناها سوداوان كالتوت الناضج، وحقيبتها الحمراء تتراقص فوق كتفيها الصغيرتين....
...ترى، هل احتضنتُ تلك الطفلة يومًا؟...
...هل شددتها إلى صدري كما ينبغي؟...
...هززت رأسي، أفرّ من طيفٍ يطاردني منذ سنين....
...لكن الألم كان أسبق من أن ينسى....
...كطعناتٍ خفية، كان الندم يثخن قلبي، كلما حاولت النسيان....
...لماذا لا يذهب الألم مهما مرت السنين؟...
...هززت رأسي برفض، وقلت لنفسي:...
..."ما فات لا يُبدَّل. الأخطاء، الندم، الخيبات... تظل كالوشم في القلب."...
...ليس أمامنا إلا أن نسير قُدمًا....
...خطوةً... فخطوة......
...أليس هذا كل ما يُمكن للإنسان أن يفعله حين يطوي العمر صفحةً تلو صفحة؟...
Comments