...الـفـصـل الآول...
...•••...
...كان يوماً عادياً،...
...يوماً لا يختلف في ظاهره عن سائر الأيام، حين أشرقت الشمس بهدوء، كما اعتادت أن تفعل كل صباح....
...وكانت نسمات الفجر تعجُّ بزقزقة عصافير «اليابان وايت آي» خارج نافذتي الصغيرة، وكأنّها تغني لحناً للحياة التي بالكاد تتحرك داخلي....
...استعصى جسدي على النهوض، كأن ثقلاً خفيّاً كان يشدني إلى الفراش....
...بخطوات متثاقلة، فتحتُ جهاز طهي الأرز، لكنّني أغلقتها على الفور، إذ لم أجد في نفسي رغبةً بالأكل....
...كان السكون الذي يملأ أرجاء المنزل خانقاً، يلتفّ حولي كغلالة من همسٍ ثقيل....
...يومٌ رتيبٌ آخر......
...يومٌ مرهق تتآكل فيه الروح....
...لبرهةٍ خطرت لي فكرة البقاء حبيسة الجدران، لكنّ خشية الغرق في مللٍ قاتل جعلتني أرفضها وأهزّ رأسي برفض....
...قررتُ أن ألجأ إلى الدفء، أن أغسل عن جسدي هذا الخمول الكئيب، فأعددتُ حماماً دافئاً....
...رغم حرارة الصيف ولهيبه، وكنتُ أكره إهدار الوقود اللازم لتسخين الماء، إلا أنّني لم أحتمل الاستحمام بالماء البارد....
...مع تقدّم العمر، بات النوم سراباً ألاحقه ليلاً دون جدوى....
...أتقلّب تحت وطأة العرق والسكون، لأستيقظ بجسدٍ مبلل، أثقلته الليالي الخالية....
...رغم حرصي على النظافة، باتت روائح غريبة تتسلل من جسدي بسرعةٍ أذهلتني....
...كانت صدمة لا توصف أن أدرك أنّ رائحتي لم تعد تحمل عبق البحر الجنوبي الذي نشأتُ عليه....
...وهكذا، كما لو كنت أؤدي طقساً قديماً أو طهارةً خفية، أخذتُ أغتسل بعناية وحرصٍ شديد....
...تأملتُ جسدي العاري، هذا الجسد الذي كان يوماً ما نحيفاً مرناً، وتحول مع الزمن إلى شيء ثقيل متهالك، ككيس رملي بالٍ....
...ومع ذلك، كان هذا الجسد جزءاً من رحلتي، حملني سبعين عاماً، وعاش معي كل نبضٍ وكل تنهيدة....
...سـبـعـون عـامـاً......
...يا له من رقمٍ عجيب!...
...كيف انقضت الأيام بهذه السرعة؟...
...لقد مضت السنوات التي كنت أظنّها بطيئة مُنهكة، حتى لم تترك خلفها أثراً، ولا ظلاً أستدلّ به عليها....
...خرجتُ من الحمّام، جففتُ جسدي، وارتديتُ ملابسي القديمة التي التصقت بي كرفيق عمرٍ صامت....
...غسلت ملابسي مئات المرات، لكنها كانت لا تزال تحتفظ برائحتي، تلتصق بجسدي كأنها جلد ثانٍ....
...متى كانت آخر مرة اشتريت فيها ملابس جديدة؟...
...أو هل امتلكتُ يوماً ملابس جديدة؟...
...لمحتُ طرف الصندوق الخشبي فوق الخزانة، سرعان ما أشحتُ ببصري عنه، كأنني أخشى ما يحويه من ذكريات....
...وقفتُ أمام المرآة، أحدق في وجهي الذي أعرفه جيداً، ومع ذلك بدا غريباً عني....
...سرّحتُ شعري الذي أصبح أبيض كالثلج. عندها رنّ الهاتف....
...آه، مـکـالـمـة!...
...كم مضى من الوقت منذ آخر مرة اتصل بي أحدهم؟...
...لم أستطع تذكّر مكان هاتفي، وفجأةً غمرتني موجةٌ من الارتباك، بحثتُ بعيني المتعبة في أنحاء الغرفة، حتى وقعت نظرتي على حقيبتي القديمة....
...أسرعتُ إليها، فتشتُ بداخلها، حتى عثرتُ على الهاتف....
...هل يمكن أن تكون ابنتي؟...
...لكن الاسم الذي ظهر على الشاشة لم يكن اسمها،...
...بل كان اسم حفيدتي....
...••••...
...الـفـصـل الـثـانـی...
...---...
..."جدتي... لقد التقيتُ بمن أريد أن أتزوجه."...
..."حقًّا؟"...
...ارتفع صوتي باندهاشٍ، وانفرج صدري كزهرةٍ ترتوي بغيثٍ مفاجئ....
...كانت السعادة التي غمرتني غريبةً عن تلك البساطة التي عرفتها في صغري؛ كانت خليطًا آسرًا من الزهو، والحنوّ، والحزن العميق الذي لا تسمع أنينه إلا روحك....
...آهٍ، لِمَ تتعقد المشاعر كلما مرّ بنا قطار الزمن؟...
...في طفولتنا، كانت السعادة نقيّة كجدولٍ جارٍ، أما الآن، فهي نهرٌ تتشابك فيه ينابيع الحنين والندم والفخر....
...ومع ذلك، كانت سعادتي صادقةً لا مراء فيها....
...وكيف لا، وحبيبتي يوجين، زهرة قلبي، تهمس لي ببدايةٍ جديدة لحياتها؟...
..."يا لها من بشارة! ومن يكون هذا الذي سكن فؤادكِ، صغيرتي؟"...
...ضحكت حفيدتي بصوتٍ متوهج وقالت:...
..."شخصٌ رائع، جدتي... رائعٌ بحق. ونحن الآن في طريقنا إليكِ. أردناها مفاجأة، لكن خشيتُ عليكِ من وقعها، فآثرت أن أنبئكِ. أنتِ في المنزل، أليس كذلك؟"...
..."بلى، بلى! أين أنتما الآن؟"...
...أية سعادةٍ أعظم من قدوم حفيدتي مع رفيق دربها؟...
...كيف كبرتِ يا يوجين حتى صرتِ عروسًا تُزفُّ إلى حبيبها؟...
...غير أن صوتًا قديما ارتدّ في أذني كسهمٍ مسموم:...
...> "لن أعود إلى هنا ثانية... لا أريد أن أراكِ مجددًا، أمي."...
...كانت تلك ابنتي، جي-يون، وقد حفرت كلماتها أخاديد داميةً في قلبي....
...اسمها، الذي لم أقوَ على نطقه، ظل شوكةً مغروسة في أعماقي لا تذبل....
...يوجين......
...هــل كـانـت أمـكِ قـادمـة مـعـكِ؟...
..."سنصل عند الظهيرة، جدتي. هيا، لنخرج معًا ونتناول غداءً شهيًّا. ولا تجرئي على الأكل قبلنا!"...
...ضحكتُ والحنين يثقل صوتي: "ومن أين لي أن أذهب؟ ستعدّ جدتكِ لكما مائدةً تليق بمقامكما."...
..."لا يا جدتي! لا تتعبي نفسكِ. فرحتكِ وحدها تكفينا."...
...فـرحـتـي......
...ألم يكن جديرًا بي أن أفرح؟...
...ابتسمتُ وكأنها أمامي، تحدق في وجهي بضياء عينيها، بينما الدمع يسيل في قلبي دون أن يراه أحد....
..."كفى حديثًا، عودا سريعًا. سأُعدّ طعامًا بسيطًا هنا، في المنزل."...
...ضحكت يوجين ضحكتها العذبة، رنينها كجرسٍ بلله المطر....
...يا لبهاء قدوم الزائرين!...
...قلبي، الذي ألف الصمت الطويل، نبض فجأة كحديقةٍ أزهرت بعد سبات....
...جسدي المتعب استعاد خفةً لم يعرفها منذ دهر....
...ماذا أفعل؟ بأي شيء أبدأ؟...
...هرولتُ عبر الغرفة جيئةً وذهابًا....
...سأنتعل حذائي الجديد، ذلك الذي ما مسّه غبار....
...ثم، كيف يكون الفتى الذي اختارته صغيرتي؟...
...يوجين... كانت دومًا زهرةً بين أشواك العالم، ذكيةً، ناعمة القلب....
...ذهب إلى الولايات المتحدة، درست في أعرق الجامعات، وجدت طريقها إلى واحدةٍ من كبريات دور الأزياء، مثلما كانت أمها ذات يوم مبدعةً بين أقرانها....
...طافت يوجين بين البلدان، وارتقت إلى مرتبة قائدة فريق، واحترمها الجميع لطموحها وإبداعها....
...ولم يكن الزواج يعني لها الكثير وسط طموحاتها، مثلها مثل كثيرين من جيلها، الذين باتوا يعدّون الزواج قيدًا لا سبيلاً إلى السعادة....
...كنا كثيرًا ما نهمس في متجرنا الصغير: "لا تفتحوا باب الحديث عن الزواج للشباب، دعوهم يأتون به حين يشاؤون."...
...كنت أقول في نفسي، مزهوةً بتجربتي:...
...'لو خُيّرت ثانيةً، لما وطئتُ درب الزواج.'...
...من ذا الذي يرغب في قيودٍ، وعالمٌ كامل ينتظر أن يُكتشف؟...
...تعمل، تسافر، تحب كما يحلو لكَ، بلا قيود ولا حدود....
...لكن إن كانت يوجين قد وجدت حبّها، وسعادتها فيه، فلن أكون إلا أول المباركين....
...سرحتُ بعيدًا في أحلامي، فلم أرَ الحجر الذي اعترض طريقي، فتعثرت، وكدت أهوي أرضًا....
...امتدت يدي تستنجد بالجدار، وتألّم معصمي من أثر السقوط....
...آهٍ، كم يخذلنا الجسد حين تسرح بنا الروح بعيدًا......
...نسيم يوليو الدافئ لامس عنقي، والعرق بدأ يخط سطوره على ملابسي....
...لا بد أن أبدو أنيقةً، مشرقةً، أمام زوج حفيدتي المنتظر....
...رفعت رأسي بقوة، وقلت همسًا: "سأنجح."...
...أمامي، امتد المشهد المعتاد، وكأنه لوحةٌ قديمةٌ لا تبهت ألوانها:...
...جدرانٌ يتدلّى منها عبق أزهار البوق البرتقالية، وأعمدة كهرباءٍ مائلة تحضن البحر الأزرق الخفي بين ذراعيها....
...ذلك البحر... الذي عشتُ على ضفافه عمرًا....
..."أمــي!"...
...سمعت الصوت ينبثق من أعماق الذاكرة....
...تخيلت طفلةً تركض نحوي من بين الأمواج، شعرها قصيرٌ يلامس جبهتها، عيناها سوداوان كالتوت الناضج، وحقيبتها الحمراء تتراقص فوق كتفيها الصغيرتين....
...ترى، هل احتضنتُ تلك الطفلة يومًا؟...
...هل شددتها إلى صدري كما ينبغي؟...
...هززت رأسي، أفرّ من طيفٍ يطاردني منذ سنين....
...لكن الألم كان أسبق من أن ينسى....
...كطعناتٍ خفية، كان الندم يثخن قلبي، كلما حاولت النسيان....
...لماذا لا يذهب الألم مهما مرت السنين؟...
...هززت رأسي برفض، وقلت لنفسي:...
..."ما فات لا يُبدَّل. الأخطاء، الندم، الخيبات... تظل كالوشم في القلب."...
...ليس أمامنا إلا أن نسير قُدمًا....
...خطوةً... فخطوة......
...أليس هذا كل ما يُمكن للإنسان أن يفعله حين يطوي العمر صفحةً تلو صفحة؟...
...بينما كنتُ أفتح باب منزل "الهاينيو"، استقبلتني "يوجوداك" بابتسامة دافئة، تخرج من المطبخ برشاقة، وكأنها قطعة من الضوء الذي لا ينقطع....
...كانت الشمس تتسلل عبر النوافذ، تتراقص على أرضية المنزل كما لو كانت تحاكي البحر في هدوءه وعنفوانه. ...
...الغطّاسات قد عدن لتوهن من غطستهن الصباحية، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها بضعًا من أسرار البحر وأحلامه. كان الجو مشبعًا برائحة البحر، وجماله كان يطفو في كل زاوية من زوايا هذا المكان....
..."كيف حالكِ؟ سمعتُ أنكِ كنتِ مريضة بالزكام الأسبوع الماضي..."...
..."أنا بخير."...
...أجبتُ بسرعة، مفضلة أن أترك قلقها يذوب في الهواء. كانت لحظة أخرى، لحظة لا تحتمل إلا أن تظل ثابتة، لا تتغير. ...
...مضيتُ في طريقي إلى حوض المياه، حيث التقطت جدرانه الزجاجية الضوء وتلألأت بلون البحر الأزرق الداكن، مستحضرةً مشاهد لا تنتهي من أعماق المحيط. ...
...هناك، كانت الأكواز الكبيرة من الأبازون والمحار تنتظرني، كما لو كانت في حالة سكون يليق بذكرى البحر الذي لا ينسى....
...دون أن أطلب المساعدة، وضعت يدي في الحوض، وهي تمتد ببطء، لا لشيء سوى لأنني كنت قد اعتدت على أنني جزء من هذه المخلوقات البحرية، كما كانت هي جزءًا مني....
...انتقيت أفضل أنواع الأبازون، ثم سحبت أخطبوطًا ذا مجسات مترفة، تتحرك ببطء في المياه المالحة. كانت تلك المكونات التي سأعدّها لـ "يوجين" وخطيبها، اللذين من المتوقع أن يطلا عليّ قريبًا....
..."لماذا؟ هل تخططين لتحضير شيء مميز؟"...
..."يوجين ستأتي."...
...قلت ذلك بينما كنت أضع المأكولات البحرية في حوض مليء بالمياه المالحة، محاطة بأصوات الماء المتناغمة التي تسربت إلى قلبي كما لو كانت أغنية قديمة. ...
...كانت جدران الزمن قد اتسعت لحظة واحدة، فلم أعد أسمع إلا همسات البحر في داخلي....
..."يوجين؟ أوه، حفيدتكِ قادمة؟"...
...كنت سأجيب بأنها لن تأتي بمفردها، بل مع الرجل الذي تعتزم الزواج به، لكنني أغمضت عيني للحظة، وفضلت أن تظل هذه الحقيقة مخبأة في قلبي، تمامًا كما يخفي البحر أسراره في الأعماق....
...ليس كل شيء يُقال في لحظة، وليس كل خبر يستحق أن يخرج من اللسان....
...فكما يُقال: "لا يكتمل الزواج حتى يعبر العروسان باب الكنيسة ويوقعان عقد الزواج". حتى ذلك الحين، كان الحذر هو سيد الموقف....
..."وصلت دفعة جديدة من الحبار الممتاز على قارب الصباح. يجب أن تشوي بعضًا منه – إنه في موسمه وطعمه سيكون رائعًا."...
..."حقًا؟ ماذا عن الساشيمي؟"...
..."لدينا سمك القاروص وسمك "سيبريم الأحمر"....
...وهناك الكثير من سمك الصخر أيضًا."...
...كان الكلام يتناثر في المكان كما لو كان البحر يتحدث من خلالنا، ومع كل كلمة، كنت أرى المكونات التي ستتحول إلى أطباق تبهر الحواس....
...توجهت إلى خزانة أخرى حيث كانت الأسماك الطازجة محفوظة بعناية، وعيني تتسابق مع الزمن. ...
...كانت الأطباق تنتظر أن تُصنع، كما لو أن البحر قد وضع بين يدي تلك المكونات التي تمثل سر الحياة. ...
...مع مثل هذه المأكولات البحرية الطازجة، كان يكفي أن أضعها على النار قليلاً ليخرج طعم البحر بكل عظمته....
...أنا "هاينيو"، تلك التي عاشرت البحر في كل فصوله. ...
...منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى العام الماضي، كان البحر عالمي، كان لي الصديق والأب، والمعلم الذي لا يُخطئ. ...
...كانت أمواجه، بكل تقلباتها، تعرفني كما أعرفها. في بعض الأحيان كان البحر يهدأ ليشبه بحيرة من الزمرد، وفي أحيان أخرى كان يتلاطم بأمواجٍ...
...هائلة، لكنني كنت أظل هناك، أغوص وأغوص، أتفاعل مع أعماقه....
...الوقت الذي قضيته تحت سطح الماء كان قدراً آخر، حيث كنت ألتقط المحار والصدفيات، والأخطبوطات التي تتسرب بين الصخور كالأرواح. ...
...تحت الماء، كنت أعيش في صمتٍ ثقيل، أتنفس ببطء، وأشعر وكأنني جزء من البحر ذاته. ...
...كان كل غطسة تحديًا، وفي كل صعود إلى السطح، كنت أشعر أنني أعود إلى الحياة، كأن البحر نفسه يُعيدني إليه من جديد....
...اليوم، وأنا بعيدة عن البحر، أصبحت تلك اللحظات الذكريات الأكثر جمالًا في حياتي. بيدي المتجعدتين، بدأت أفصل لحم المحار عن قوقعته ببراعة. ...
...كان الأخطبوط قد نُقع بالملح في الماء المغلي، بينما الحبار كان يضج على الشواية، مبدعًا رائحته التي ملأت الأجواء بطعم البحر. ...
...ساعدت "يوجوداك" في تحضير الساشيمي، وقطعت أحشاء المحار لتحضير العصيدة. ...
...وكلما رفعت غطاء القدر، كان بخار كثيف يتصاعد من داخله، محملاً برائحة البحر المالحة، كأنني أستشعره ينبض من أعماق روحي....
...في وقتٍ قصير، تحولت الطاولة إلى مائدة طعام غنية بالألوان والنكهات. ...
...أضفت إليها أطباقًا من الأنشوجة المخللة، وسلطة الأعشاب البحرية، وطحالب الهيجيكي، حتى امتلأت الطاولة بالبهجة. ...
...نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، وتأكدت أنني كنت على الموعد تمامًا. لكنني تساءلت في نفسي: كم مر من الزمن؟ هل تأخروا؟ أم أنهم علقوا في الزحام؟...
...رفعت رأسي، ونظرت من خلال الأبواب الزجاجية الزاهية نحو الميناء الممتد أمامي....
...كانت المياه الزرقاء، التي تدفقت إلى الداخل كالسائل الذي يسحب بسرعة إلى مجراه، تتلألأ تحت أشعة الشمس كما لو كانت مرآة تومض في وجه السماء. ...
...أما القوارب، التي ابتعدت عن قسوة البحر المفتوح، فقد ربطت على الأرصفة، وكأنها جراء مطيعة في انتظار تعليمات أصحابها....
...أن تجد لك مكانًا تعود إليه هو حقًا نعمة، من نوع السكينة التي تملأ القلب. ...
...ربما يكون هذا المكان هو الذي وُلدت فيه، نشأت فيه، وكبرت بين أرجائه. ربما كانت تلك السعادة التي لم أكن أدركها بالكامل، لكنني كنت أدرك تمامًا أنني هنا، في هذا المكان، ليس فقط لأني أحب البحر، بل لأنني جزءٌ من هذا كله....
...لقد عاشت "يوجين" معي فترة من الزمن، عندما كانت طفلة صغيرة. ربما كان ذلك السبب الذي جعل بيننا رابطًا قويًا، لا يُفكك بسهولة. ...
...كانت الطفلة التي تملأ البيت بالصخب والضحك، حتى حينما كانت "جي-يون" مضطرة للابتعاد للعمل في بوسان....
...هل مرّت ست اعوام؟ أم سبع؟...
..."أمي، هل تكرهينني؟"...
...كان هذا السؤال الحارق الذي ألقته "جي-يون" في اللحظة التي كانت فيها ممسكة بيد "يوجين" لتودعني، خارج أبواب منزل "الهاينيو" المطلة على الميناء. كان صدى الصوت مريرًا، مليئًا بالحزن، كخيوط متشابكة من الأسى التي تلتف حول قلبها....
..."تكرهين أنني وُلدت، أليس كذلك؟ دائمًا شعرتِ بذلك... اعترفي بذلك."...
...كانت كلماتها أكثر من مجرد اتهام؛ كانت صرخات تلتقي مع جروح قديمة. ماذا كان ردّي حينها؟...
...ماذا قلتُ لها في تلك اللحظة؟ هل قلتُ حقًا: "بالطبع لا، كيف يمكنكِ أن تفكري في شيء كهذا؟"...
...هل قلتُ ذلك بالفعل؟ هل كانت تلك هي الكلمات التي خرجت من فمي؟...
..."توقفي عن الكذب."...
...كان هذا ما قالته بمرارة، وهي تحمل في عينيها غضبًا وجروحًا قديمة....
...ماذا قلتُ لأهدئ غضبها؟ كيف سكنتُ هذا البركان المتفجر من الألم؟ ...
..."أستطيع أن أرى ذلك في عينيك، لذا توقفي عن الكذب!" ...
...كانت كلماتها تعصف بالذكريات، وكأنها طوفان يغرقني في بحره....
...صورة "جي-يون" وهي تبتعد عني، غاضبة، وعيون "يوجين" البريئة التي كانت تتبعها، لا تزال حية في ذاكرتي كلوحة حزينة لم تُكتمل....
...مثل سفينة تنكسر ربطاتها وتغادر الميناء، خرجت "جي-يون" بعيدًا عني، تاركة وراءها أثر خطواتها العنيفة التي كان صدى وقعها يتردد في أذني....
...ماذا فعلتُ حينها؟ لماذا لم أتحرك؟ لماذا لم أركض وراءها، ألحق بها وأخبرها بأنها مخطئة؟ هل كانت تبكي حين ابتعدت عني؟ لابد أنها كانت تبكي في صمت، بينما تبتعد عني وتغيب....
..."جـدّتــي!" ...
...في تلك اللحظة، ناداني صوتٌ دافئ كما لو كان الصوت يأتي من عالم آخر. كانت "يوجين"، التي كانت تشبه والدتها في ملامحها، لكن عيونها تحمل نظرة مختلفة تمامًا، نظرة شابة مليئة بالأمل....
..."يـوجـیـن!"...
...ركضت نحوها، دهشة في عيني. كانت "يوجين"، الطفلة التي كبرت بين يديّ، الآن امرأة ناضجة، تحمل في مشيتها قوة وثقة، كما لو كانت قد ورثت كل طاقة الشباب عن والدتها....
..."جـدّتــي!"...
...كان الصوت الذي ناداني به ينبعث من بين خطوات واثقة وطويلة، كانت "يوجين" قد اقتربت مني بسرعة، وعانقتني كما لو كانت تود أن تُخبرني أن الزمن قد عاد بها إلى لحظةٍ كانت فيها طفلة صغيرة بين يدي. ...
...كانت أطول من "جي-يون"، وكانت خطواتها تتسم بالثقة التي تطغى على قلبي كما لو كانت تطمئنني بأن كل شيء سيكون على ما يرام....
...ورائحة عطرها الفاخر، الذي كان يحمل عبير الشباب والحياة، غمرني بشدة. ...
...كانت تتسلل إليَّ مثل نسيم عليل في صباح صيفي، جمالها الشبابي لا يُقاوم، وكأنني أحتضن باقة من الزهور المتفتحة، زهور برية في ذروة الصيف، تتناثر عطورها في الهواء، تنبض بالحياة وتملأ الأجواء بالحيوية....
...آه، كم كانت هذه الطفلة صغيرة في عينيّ ذات يوم! كيف أصبح لديها الآن هذا الجمال، وهذه الحيوية التي تشبه نارًا متقدة تعيش داخلها؟...
...الشباب الذي كان يملؤنا جميعًا، ذلك الشعور الذي كان يتسلل إلى قلوبنا كالنار التي تلتهمنا وتزعجنا، قد غادرني ليحيا في جسدها، كما لو كانت هي من تحمل هذا الوهج المتقد....
..."هل كنتِ بخير؟"...
...نظرت إليّ "يوجين" وهي تحتضن جسدي النحيل المتعب....
...كان وجهها مشرقًا، ناعمًا، مشحونًا بطاقة الحياة، وكانت تنظر إليّ كما لو كانت هي تجسيدًا للشباب ذاته....
...مددتُ يدي ولمستُ وجهَها برفق....
...وجهُ حفيدتي......
...الوجهُ الذي يحملُ ملامح ابنتي......
...كأنّ وجهَ طفلتي، تلك التي وُلِدتْ من دمي ولحمي، قد انعكسَ في ملامحها....
..."جدّتي، لقد اشتقتُ إليكِ كثيرًا!"...
..."نعم... نعم، وأنا أيضًا اشتقتُ إليكِ."...
...كنت أفكّر فيكِ كل يوم، كل لحظة... أنتِ وأمكِ.... ...
..."و... ذلك الشخص؟"...
...نظرتُ من فوق كتف "يوجين" نحو السيارة السوداء التي بدأت تتوقف في موقف السيارات....
...هل يُعقل أن يكون خطيبُها في تلك السيارة؟...
..."جدّتي، أشعر بتوتر شديد."...
..."لا أُصدّق أن هذا اليوم قد أتى أخيرًا."...
..."وأنا أيضًا لم أتخيّل ذلك، لكن رؤيتكِ سعيدة تجعل قلبي ممتلئًا بالفرح."...
...قد قلتُ هذا بصدقٍ كامل....
...إن استطاعت هذه الفتاة أن تجد السعادة، إن استطاعت أن تنال الفرح الحقيقي... فلن أطلب شيئًا بعد الآن....
...توقّفت السيارة عند الميناء، وانطفأ صوتُ المحرّك بنقرةٍ ناعمة، وبدأ باب السائق يُفتح ببطء....
...خرج رجلٌ طويلٌ القامة إلى ضوء الشمس....
...وفي تلك اللحظة، بدا وكأن الزمنَ قد توقّف....
...لا – بل هل كانت أنفاسي هي التي توقّفت؟...
...إنــه هــو......
...ذلـك الـرجـل الـذي كـان يـحـمـل فــي خـطـواتــه ...
...كــل مــا كـنـت أخـشـی أن يـغـیـره الـزمــن....
... ...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon