...بينما كنتُ أفتح باب منزل "الهاينيو"، استقبلتني "يوجوداك" بابتسامة دافئة، تخرج من المطبخ برشاقة، وكأنها قطعة من الضوء الذي لا ينقطع....
...كانت الشمس تتسلل عبر النوافذ، تتراقص على أرضية المنزل كما لو كانت تحاكي البحر في هدوءه وعنفوانه. ...
...الغطّاسات قد عدن لتوهن من غطستهن الصباحية، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها بضعًا من أسرار البحر وأحلامه. كان الجو مشبعًا برائحة البحر، وجماله كان يطفو في كل زاوية من زوايا هذا المكان....
..."كيف حالكِ؟ سمعتُ أنكِ كنتِ مريضة بالزكام الأسبوع الماضي..."...
..."أنا بخير."...
...أجبتُ بسرعة، مفضلة أن أترك قلقها يذوب في الهواء. كانت لحظة أخرى، لحظة لا تحتمل إلا أن تظل ثابتة، لا تتغير. ...
...مضيتُ في طريقي إلى حوض المياه، حيث التقطت جدرانه الزجاجية الضوء وتلألأت بلون البحر الأزرق الداكن، مستحضرةً مشاهد لا تنتهي من أعماق المحيط. ...
...هناك، كانت الأكواز الكبيرة من الأبازون والمحار تنتظرني، كما لو كانت في حالة سكون يليق بذكرى البحر الذي لا ينسى....
...دون أن أطلب المساعدة، وضعت يدي في الحوض، وهي تمتد ببطء، لا لشيء سوى لأنني كنت قد اعتدت على أنني جزء من هذه المخلوقات البحرية، كما كانت هي جزءًا مني....
...انتقيت أفضل أنواع الأبازون، ثم سحبت أخطبوطًا ذا مجسات مترفة، تتحرك ببطء في المياه المالحة. كانت تلك المكونات التي سأعدّها لـ "يوجين" وخطيبها، اللذين من المتوقع أن يطلا عليّ قريبًا....
..."لماذا؟ هل تخططين لتحضير شيء مميز؟"...
..."يوجين ستأتي."...
...قلت ذلك بينما كنت أضع المأكولات البحرية في حوض مليء بالمياه المالحة، محاطة بأصوات الماء المتناغمة التي تسربت إلى قلبي كما لو كانت أغنية قديمة. ...
...كانت جدران الزمن قد اتسعت لحظة واحدة، فلم أعد أسمع إلا همسات البحر في داخلي....
..."يوجين؟ أوه، حفيدتكِ قادمة؟"...
...كنت سأجيب بأنها لن تأتي بمفردها، بل مع الرجل الذي تعتزم الزواج به، لكنني أغمضت عيني للحظة، وفضلت أن تظل هذه الحقيقة مخبأة في قلبي، تمامًا كما يخفي البحر أسراره في الأعماق....
...ليس كل شيء يُقال في لحظة، وليس كل خبر يستحق أن يخرج من اللسان....
...فكما يُقال: "لا يكتمل الزواج حتى يعبر العروسان باب الكنيسة ويوقعان عقد الزواج". حتى ذلك الحين، كان الحذر هو سيد الموقف....
..."وصلت دفعة جديدة من الحبار الممتاز على قارب الصباح. يجب أن تشوي بعضًا منه – إنه في موسمه وطعمه سيكون رائعًا."...
..."حقًا؟ ماذا عن الساشيمي؟"...
..."لدينا سمك القاروص وسمك "سيبريم الأحمر"....
...وهناك الكثير من سمك الصخر أيضًا."...
...كان الكلام يتناثر في المكان كما لو كان البحر يتحدث من خلالنا، ومع كل كلمة، كنت أرى المكونات التي ستتحول إلى أطباق تبهر الحواس....
...توجهت إلى خزانة أخرى حيث كانت الأسماك الطازجة محفوظة بعناية، وعيني تتسابق مع الزمن. ...
...كانت الأطباق تنتظر أن تُصنع، كما لو أن البحر قد وضع بين يدي تلك المكونات التي تمثل سر الحياة. ...
...مع مثل هذه المأكولات البحرية الطازجة، كان يكفي أن أضعها على النار قليلاً ليخرج طعم البحر بكل عظمته....
...أنا "هاينيو"، تلك التي عاشرت البحر في كل فصوله. ...
...منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى العام الماضي، كان البحر عالمي، كان لي الصديق والأب، والمعلم الذي لا يُخطئ. ...
...كانت أمواجه، بكل تقلباتها، تعرفني كما أعرفها. في بعض الأحيان كان البحر يهدأ ليشبه بحيرة من الزمرد، وفي أحيان أخرى كان يتلاطم بأمواجٍ...
...هائلة، لكنني كنت أظل هناك، أغوص وأغوص، أتفاعل مع أعماقه....
...الوقت الذي قضيته تحت سطح الماء كان قدراً آخر، حيث كنت ألتقط المحار والصدفيات، والأخطبوطات التي تتسرب بين الصخور كالأرواح. ...
...تحت الماء، كنت أعيش في صمتٍ ثقيل، أتنفس ببطء، وأشعر وكأنني جزء من البحر ذاته. ...
...كان كل غطسة تحديًا، وفي كل صعود إلى السطح، كنت أشعر أنني أعود إلى الحياة، كأن البحر نفسه يُعيدني إليه من جديد....
...اليوم، وأنا بعيدة عن البحر، أصبحت تلك اللحظات الذكريات الأكثر جمالًا في حياتي. بيدي المتجعدتين، بدأت أفصل لحم المحار عن قوقعته ببراعة. ...
...كان الأخطبوط قد نُقع بالملح في الماء المغلي، بينما الحبار كان يضج على الشواية، مبدعًا رائحته التي ملأت الأجواء بطعم البحر. ...
...ساعدت "يوجوداك" في تحضير الساشيمي، وقطعت أحشاء المحار لتحضير العصيدة. ...
...وكلما رفعت غطاء القدر، كان بخار كثيف يتصاعد من داخله، محملاً برائحة البحر المالحة، كأنني أستشعره ينبض من أعماق روحي....
...في وقتٍ قصير، تحولت الطاولة إلى مائدة طعام غنية بالألوان والنكهات. ...
...أضفت إليها أطباقًا من الأنشوجة المخللة، وسلطة الأعشاب البحرية، وطحالب الهيجيكي، حتى امتلأت الطاولة بالبهجة. ...
...نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، وتأكدت أنني كنت على الموعد تمامًا. لكنني تساءلت في نفسي: كم مر من الزمن؟ هل تأخروا؟ أم أنهم علقوا في الزحام؟...
...رفعت رأسي، ونظرت من خلال الأبواب الزجاجية الزاهية نحو الميناء الممتد أمامي....
...كانت المياه الزرقاء، التي تدفقت إلى الداخل كالسائل الذي يسحب بسرعة إلى مجراه، تتلألأ تحت أشعة الشمس كما لو كانت مرآة تومض في وجه السماء. ...
...أما القوارب، التي ابتعدت عن قسوة البحر المفتوح، فقد ربطت على الأرصفة، وكأنها جراء مطيعة في انتظار تعليمات أصحابها....
...أن تجد لك مكانًا تعود إليه هو حقًا نعمة، من نوع السكينة التي تملأ القلب. ...
...ربما يكون هذا المكان هو الذي وُلدت فيه، نشأت فيه، وكبرت بين أرجائه. ربما كانت تلك السعادة التي لم أكن أدركها بالكامل، لكنني كنت أدرك تمامًا أنني هنا، في هذا المكان، ليس فقط لأني أحب البحر، بل لأنني جزءٌ من هذا كله....
...لقد عاشت "يوجين" معي فترة من الزمن، عندما كانت طفلة صغيرة. ربما كان ذلك السبب الذي جعل بيننا رابطًا قويًا، لا يُفكك بسهولة. ...
...كانت الطفلة التي تملأ البيت بالصخب والضحك، حتى حينما كانت "جي-يون" مضطرة للابتعاد للعمل في بوسان....
...هل مرّت ست اعوام؟ أم سبع؟...
..."أمي، هل تكرهينني؟"...
...كان هذا السؤال الحارق الذي ألقته "جي-يون" في اللحظة التي كانت فيها ممسكة بيد "يوجين" لتودعني، خارج أبواب منزل "الهاينيو" المطلة على الميناء. كان صدى الصوت مريرًا، مليئًا بالحزن، كخيوط متشابكة من الأسى التي تلتف حول قلبها....
..."تكرهين أنني وُلدت، أليس كذلك؟ دائمًا شعرتِ بذلك... اعترفي بذلك."...
...كانت كلماتها أكثر من مجرد اتهام؛ كانت صرخات تلتقي مع جروح قديمة. ماذا كان ردّي حينها؟...
...ماذا قلتُ لها في تلك اللحظة؟ هل قلتُ حقًا: "بالطبع لا، كيف يمكنكِ أن تفكري في شيء كهذا؟"...
...هل قلتُ ذلك بالفعل؟ هل كانت تلك هي الكلمات التي خرجت من فمي؟...
..."توقفي عن الكذب."...
...كان هذا ما قالته بمرارة، وهي تحمل في عينيها غضبًا وجروحًا قديمة....
...ماذا قلتُ لأهدئ غضبها؟ كيف سكنتُ هذا البركان المتفجر من الألم؟ ...
..."أستطيع أن أرى ذلك في عينيك، لذا توقفي عن الكذب!" ...
...كانت كلماتها تعصف بالذكريات، وكأنها طوفان يغرقني في بحره....
...صورة "جي-يون" وهي تبتعد عني، غاضبة، وعيون "يوجين" البريئة التي كانت تتبعها، لا تزال حية في ذاكرتي كلوحة حزينة لم تُكتمل....
...مثل سفينة تنكسر ربطاتها وتغادر الميناء، خرجت "جي-يون" بعيدًا عني، تاركة وراءها أثر خطواتها العنيفة التي كان صدى وقعها يتردد في أذني....
...ماذا فعلتُ حينها؟ لماذا لم أتحرك؟ لماذا لم أركض وراءها، ألحق بها وأخبرها بأنها مخطئة؟ هل كانت تبكي حين ابتعدت عني؟ لابد أنها كانت تبكي في صمت، بينما تبتعد عني وتغيب....
..."جـدّتــي!" ...
...في تلك اللحظة، ناداني صوتٌ دافئ كما لو كان الصوت يأتي من عالم آخر. كانت "يوجين"، التي كانت تشبه والدتها في ملامحها، لكن عيونها تحمل نظرة مختلفة تمامًا، نظرة شابة مليئة بالأمل....
..."يـوجـیـن!"...
...ركضت نحوها، دهشة في عيني. كانت "يوجين"، الطفلة التي كبرت بين يديّ، الآن امرأة ناضجة، تحمل في مشيتها قوة وثقة، كما لو كانت قد ورثت كل طاقة الشباب عن والدتها....
..."جـدّتــي!"...
...كان الصوت الذي ناداني به ينبعث من بين خطوات واثقة وطويلة، كانت "يوجين" قد اقتربت مني بسرعة، وعانقتني كما لو كانت تود أن تُخبرني أن الزمن قد عاد بها إلى لحظةٍ كانت فيها طفلة صغيرة بين يدي. ...
...كانت أطول من "جي-يون"، وكانت خطواتها تتسم بالثقة التي تطغى على قلبي كما لو كانت تطمئنني بأن كل شيء سيكون على ما يرام....
...ورائحة عطرها الفاخر، الذي كان يحمل عبير الشباب والحياة، غمرني بشدة. ...
...كانت تتسلل إليَّ مثل نسيم عليل في صباح صيفي، جمالها الشبابي لا يُقاوم، وكأنني أحتضن باقة من الزهور المتفتحة، زهور برية في ذروة الصيف، تتناثر عطورها في الهواء، تنبض بالحياة وتملأ الأجواء بالحيوية....
...آه، كم كانت هذه الطفلة صغيرة في عينيّ ذات يوم! كيف أصبح لديها الآن هذا الجمال، وهذه الحيوية التي تشبه نارًا متقدة تعيش داخلها؟...
...الشباب الذي كان يملؤنا جميعًا، ذلك الشعور الذي كان يتسلل إلى قلوبنا كالنار التي تلتهمنا وتزعجنا، قد غادرني ليحيا في جسدها، كما لو كانت هي من تحمل هذا الوهج المتقد....
..."هل كنتِ بخير؟"...
...نظرت إليّ "يوجين" وهي تحتضن جسدي النحيل المتعب....
...كان وجهها مشرقًا، ناعمًا، مشحونًا بطاقة الحياة، وكانت تنظر إليّ كما لو كانت هي تجسيدًا للشباب ذاته....
...مددتُ يدي ولمستُ وجهَها برفق....
...وجهُ حفيدتي......
...الوجهُ الذي يحملُ ملامح ابنتي......
...كأنّ وجهَ طفلتي، تلك التي وُلِدتْ من دمي ولحمي، قد انعكسَ في ملامحها....
..."جدّتي، لقد اشتقتُ إليكِ كثيرًا!"...
..."نعم... نعم، وأنا أيضًا اشتقتُ إليكِ."...
...كنت أفكّر فيكِ كل يوم، كل لحظة... أنتِ وأمكِ.... ...
..."و... ذلك الشخص؟"...
...نظرتُ من فوق كتف "يوجين" نحو السيارة السوداء التي بدأت تتوقف في موقف السيارات....
...هل يُعقل أن يكون خطيبُها في تلك السيارة؟...
..."جدّتي، أشعر بتوتر شديد."...
..."لا أُصدّق أن هذا اليوم قد أتى أخيرًا."...
..."وأنا أيضًا لم أتخيّل ذلك، لكن رؤيتكِ سعيدة تجعل قلبي ممتلئًا بالفرح."...
...قد قلتُ هذا بصدقٍ كامل....
...إن استطاعت هذه الفتاة أن تجد السعادة، إن استطاعت أن تنال الفرح الحقيقي... فلن أطلب شيئًا بعد الآن....
...توقّفت السيارة عند الميناء، وانطفأ صوتُ المحرّك بنقرةٍ ناعمة، وبدأ باب السائق يُفتح ببطء....
...خرج رجلٌ طويلٌ القامة إلى ضوء الشمس....
...وفي تلك اللحظة، بدا وكأن الزمنَ قد توقّف....
...لا – بل هل كانت أنفاسي هي التي توقّفت؟...
...إنــه هــو......
...ذلـك الـرجـل الـذي كـان يـحـمـل فــي خـطـواتــه ...
...كــل مــا كـنـت أخـشـی أن يـغـیـره الـزمــن....
... ...
Comments