Paradise Earth الفردوس الأرض
..._1_...
...("الأميرة ليال")...
في مملكة الفردوس، تلك الجنة الأرضية التي أبهرت العقول بجمالها الأخاذ، وُلدت الأميرة ليال، الابنة الوحيدة للملك نورسين، حاكم نصف الأرض، والملكة نجمة، ذات الجمال والطيبة. لم يكن غريبًا أن تحمل المملكة اسم الفردوس، فهي تفوق الخيال روعةً وسحرًا، وكأنها قطعة من السماء هبطت إلى الأرض.
الملك نورسين كان حاكمًا عادلًا، يدرك ما هو خير لشعبه وما هو شر لهم، ولهذا أحبّه الجميع، وعمّ السلام في أرجاء المملكة. أما ليال، فكانت مدللة والديها، لكنها لم تكن متكبرة أو متغطرسة. ورثت الحكمة عن والدها، والطيبة والجمال عن والدتها، فاجتمعت فيها صفات الملوك والنبلاء.
لكن القلب، ذلك الكيان العنيد، لا يعرف القوانين ولا يعترف بالمحظورات. لم تتوقع ليال أن تسقط أسيرة حب شخص محرم عليها، شخص لا يجب أن تنبض مشاعرها باسمه. ومع ذلك، أحبّته بكل ما تملك من إحساس، كأنها ولدت للحب لأول مرة، وكأن قلبها لم ينبض إلا له، هو وحده. شعرت بنبضاته تتسارع، ليس لها، بل له، وكأن القدر كتب عليها هذا العشق المستحيل.
•✠•❀••✠•❀••✠•❀•
في وسط القصر، وتحديدًا في الحديقة الخلفية المخصصة لها ولصديقاتها، جلست الأميرة ليال بين الورود المتفتحة، محاطة بصديقاتها الأميرات. كانت سديم، صديقتها المقربة من الخدم، تضع على رأسها تاجًا من الورود الملونة، صنعته بيديها.
قالت سديم بهدوء، وهي تتأمل جمال الأميرة:
_ يا أميرتي، كم يليق بكِ هذا التاج! زادكِ جمالًا فوق جمالك.
التفتت ليال إلى المرآة، ولامست التاج برفق. رغم بساطته، إلا أنه لامس قلبها بطريقة غريبة، كأنه أثمن من الألماس.
ابتسمت بخفة، وقالت وهي تشعر بامتنان عميق:
_ لا تبالغي، أنا لستُ بهذا الجمال يا سديم. تاجكِ جميل... تمامًا مثلكِ. كل عام، في مثل هذا اليوم، تكون هداياكِ الأجمل بالنسبة لي. قد تبدو بسيطة، لكنها تعني لي الكثير... أحبكِ يا صديقة طفولتي، بل أختي.
كل عام، كانت سديم تهديها شيئًا بسيطًا لكنها تبكي من الفرح، لأن سديم كانت تذكرها بأختها الراحلة ليا، وكأنها تراها أمامها من جديد. ليا، التي رحلت منذ ست سنوات، كانت تصغرها بسنتين ، ولم يكن شيء في العالم يعوّض غيابها.
"ليا" الاسم الذي لا تزال ليال تهمس به في أحلامها. رحلت عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها، في حادث مأساوي أثناء رحلة صيد مع والدها الملك نورسين في الغابة القريبة من "غابات الجحيم". لم يكن أحد يعلم بوجود ذلك الوحش الغامض، الذي انقضّ عليها والتهم نصف جسدها أمام والدها، الذي وقف عاجزًا، غير قادر على إنقاذها. كانت تلك السنوات الست الأصعب في حياة العائلة الملكية، لم يتعافَ الملك ولا الملكة، أما ليال، ففقدت طعم الاحتفالات إلى الأبد.
الآن، وقد بلغت التاسعة عشرة من عمرها، كانت تحاول أن تجد بعض السعادة وسط صديقاتها، سديم، الأميرة أجوان، والأميرة ندى، ابنتا عمها، توأم والدها.
كان الجو لطيفًا، والحديقة غارقة في ضوء القمر الناعمة. المكان كان مصممًا خصيصًا للأميرة، بناءً على رغبة الملك، حتى تجد فيه بعض العزاء بعد فقدان أختها.
أجوان، بمرح وهي تلقي نظرة ماكرة على الفتيات:
_ هل تعلمن؟ رجال النصف الآخر من الأرض، رجال "جحيم الشمس"، يزعمون أنهم وحوش، لكن لدي إحساس أنهم مفتونون بالجمال أكثر مما يدّعون!
ندى، بهمسة تحذيرية:
_ كفى يا أجوان! أنتِ دائمًا تتحدثين عن الرجال! أغلقي الموضوع فورًا.
ثم قرصت خد أختها بمزاح، محاولة إيقاف حديثها قبل أن يسمع أحد، خاصة الملك.
أجوان، بانزعاج وهي تضع يدها على خدها:
_ لماذااا فعلتِ هذااا؟! آه، يا لعينَة! تعالي هنا!
ركضت ندى وهي تضحك، بينما طاردتها أجوان غاضبة، وسط ضحكات ليال وسديم، التي سرعان ما انضمت إلى المطاردة، محاولة إنقاذ ندى.
بعد لحظات، عادت سديم وهي تلتقط أنفاسها، بعدما اختفت الأختان في أرجاء الحديقة
ليال جالسة تحت ضوء القمر، ودموعها تنساب بصمت على وجنتيها، كأنها تحاول كتم الألم الذي ينهش قلبها. بجانبها، كانت سديم تراقبها بقلق، قبل أن تهمس بصوت حنون:
_ لما البكاء يا أميرتي؟ هل أنتِ بخير؟
مسحت ليال دموعها سريعًا، محاولة التظاهر بالقوة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتجاف صوتها:
_ لا شيء، سديم... لكنني أشعر أن شيئًا سيحدث، لا أعلم ما هو، لكنه يقترب...
وضعت سديم يدها على كتف الأميرة، ثم احتضنتها بلطف، محاولة طمأنتها:
_ لا تقلقي يا أميرتي، لن يحدث شيء، كل الأمور ستكون بخير...
لكن ليال أغمضت عينيها بقوة، وكأنها تحاول محو ذكرى قديمة، ثم همست بصوت مرتعش:
_ سديم، أنتِ تعلمين أنني أشعر بالأحداث قبل وقوعها... تذكري، قبل أن تموت ليا، شعرت بذلك، لكنني أقنعت نفسي أنني مخطئة، قلت لن يحدث شيء، ستبقى أختي بخير... لكن ما حدث كان أسوأ مما توقعت! لماذا أنا الوحيدة في عائلتي التي تمتلك هذه اللعنة؟ لماذا يجب أن أشعر بالألم قبل أن يقع؟ لماذااااا؟!
كانت دموعها تتساقط بغزارة، كالمطر في ليلة عاصفة. أما سديم، فكانت تشعر أن قلبها يتمزق لرؤية أميرتها بهذه الحالة، لكنها لم تقل شيئًا، فقط ضمّتها بقوة أكبر، تحاول أن تمنحها الأمان الذي تفتقده.
ليال لا تحب أن يراها أحد وهي تبكي، كانت دائمًا تخفي ألمها حتى لا يعلم والدها، لأنه إن عرف، ستتحطم روحه أكثر، وسيشعر أن ابنته لم تتعافَ من اكتئابها بالكامل. صحيح أنها لم تعد تبكي ليلًا ونهارًا كما كانت تفعل في السنوات الأولى بعد وفاة ليا، لكنها لم تُشفَ تمامًا… وسديم وحدها كانت تعرف ذلك.
فجأة، قاطع لحظتهما صوت إحدى الخادمات وهي تنحني باحترام:
_ أميرتي ليال، العشاء جاهز. هل ترغبين أن أحضره لكِ؟
لكن ليال هزّت رأسها بلا مبالاة، وقالت بصوت خافت:
_ لا أشعر بالجوع الآن، عندما أحتاج إلى الطعام سأخبركِ.
_ كما تشائين، أميرتي.
انحنت الخادمة مجددًا ثم غادرت، بينما مسحت سديم على رأس ليال بلطف، محاولة تخفيف التوتر.
_ لما رفضتِ الطعام؟ أعلم أنكِ جائعة… هل تودين أن أعدّ لكِ كعكة البرتقال التي تحبينها، كما أفعل كل عام؟
ردّت ليال ببرود:
_ لا تمازحيني، سديم... أنا حقًا لا أشعر بالجوع.
نهضت سديم بعزم، مستعدة للذهاب إلى المطبخ وإعداد الكعكة بنفسها، لكن ليال أمسكت يدها قبل أن تبتعد.
_ لا تذهبي، سديم… ابقي معي.
ابتسمت سديم بحزن، وعادت للجلوس بجانبها:
_ لن أذهب يا ليال… حتى لو طلبتِ مني الرحيل، لن أرحل. وإن جاء يوم وجب عليّ الاختيار بين إنقاذكِ أو إنقاذ نفسي، سأختاركِ أنتِ، أميرتي.
نظرت إليها ليال بغضب مفاجئ، عيناها تلتمعان بالرفض القاطع:
_ لا تقولي هذا مجددًا! يجب أن تختاري حياتكِ أولًا، أفهمتِ؟ لن أسمح لكِ بالتضحية من أجلي، سنعيش معًا… أو نموت معًا، لا خيار آخر!
ضحكت سديم بخفوت، محاولة تهدئتها:
_ لما كل هذه العصبية يا فتاة؟! هيا، لنذهب لتناول العشاء، أشعر أن معدتي ستختفي من شدة الجوع.
رغم حزنها، ابتسمت ليال أخيرًا:
_ حسنًا، دائمًا ما تنجحين في فتح شهيتي، يا عنيدة.
تظاهرت سديم بالغضب، ووضعت يديها على خصرها:
_ عنيدة أنا؟! لا أستطيع أن أقول لكِ مثلها، أنتِ أميرتي بعد كل شيء!
ضحكت ليال، ثم أمسكت بيدها وسحبتها معها:
_ كفاكِ كلامًا، هيا نذهب، معدتي بدأت تأكل نفسها!
وضعت سديم يدها على بطنها، وقالت بمزاح:
_ وأنا أيضًا، كدتُ أموت جوعًا بانتظاركِ!
انطلقتا معًا، وكأن لحظات الحزن السابقة لم تكن سوى غيمة عابرة في سماء صداقتهما… لكن إحساس ليال لم يكن مجرد وهم، كانت تشعر أن شيئًا قادم، شيئًا سيغيّر حياتها إلى الأبد
ضحكت سديم، وهي تراقب ليال التي كانت تأكل بنهم. لطالما عرفت أن أميرتها لا تستطيع مقاومة الطعام، خاصةً في الأوقات التي تشعر فيها بالتوتر.
في قاعة الطعام الفاخرة، جلست الأميرات أجوان وندى، مستمتعتين بعشاءهنّ. القصر كان هادئًا إلى حد ما، حيث كان الجميع منشغلين بأعمالهم، ولم يبقَ في القاعة سوى الأميرات الثلاث و سديم.
وبينما كانت أجوان تمضغ طعامها، رفعت رأسها بحماس وقالت:
_ ما رأيكنّ أن نكمل السهرة خارج القصر؟ الجو بارد وجميل، والليل يبدو مثاليًا للمغامرات!
تنهدت سديم، عابسة:
_ لا أعتقد يا أميرتي، لدي أعمال يجب أن أنهيها… لكنكنّ تستطيعن الذهاب، فقط لا تتهوري يا أجوان.
أما ليال، فكانت مترددة:
_ لا أعلم… أشعر أنني أريد الذهاب، لكن في الوقت نفسه…
ثم التفتت إلى سديم، وعيناها تتوسلان إليها:
_ تعالي معنا! كفي عن التفكير في العمل، هناك الكثير من الخدم يمكنهم إتمام مهامكِ، لا تقلقي… إذًا، هل ستأتين؟
ندى صاحت بحماس شديد:
_ هيا يا فتيات! ولكن علينا أن نأخذ معنا أحد الحراس، سأطلب من أخي أن يرافقنا أحدهم.
نظرت إليها سديم بجدية:
_ حسنًا، سأذهب معكنّ، لكن لن نتأخر، مفهوم؟
ليال ابتسمت بارتياح:
_ حسنًا! ندى، أخبري أخاكِ، أعلم أنه لن يمانع، فهو يحفظ أسراركِ دائمًا.
رفعت ندى رأسها بفخر:
_ أخي سراب لا يرفض لي طلبًا، فهو يعلم أنني أخته الحبيبة! سأذهب إليه فورًا، انتظراني عند بوابة القصر.
أجوان سخرت منها بمزاح:
_ وهل تعتقدين أنكِ الوحيدة المفضلة لديه؟ سراب هو أخي أيضًا، وليس ملكًا لكِ وحدكِ، أيتها المغرورة!
ضحكت ليال، بينما غادرت ندى، متجهة نحو قاعة الاجتماعات، حيث كان سراب منشغلًا مع الملك نورسين، يناقشان الوضع الأمني للمملكة.
الملك تحدث بحزم:
_ هل نحتاج إلى زيادة عدد الجنود يا سراب؟ أعتقد أنه سيكون لصالحنا.
سراب فكر قليلاً قبل أن يجيب:
_ كما تريد يا مولاي، لكن أرى أنه من الأفضل التركيز على توفير الأسلحة، فالجنود لدينا منتشرون بالفعل في كل أنحاء المملكة.
في تلك اللحظة، دخل أحد الحراس بعد أن استأذن، مما أثار استياء الملك الذي قال بعصبية:
_ ألم أخبركم بألّا تقاطعوني أثناء الاجتماعات؟
أجاب الحارس بهدوء شديد:
_ مولاي، الأميرة ندى تريد الدخول، أخبرتها أنك مشغول، لكنها أصرت.
تنهد الملك، ثم أشار للحارس:
_ أدخلها، ندى لا تحتاج إلى إذن.
ابتسم سراب بمكر وهو يهمس:
_ مولاي، لا تدللها كثيرًا، ستفسدها بحبك الزائد.
ابتسم الملك بحزن خفيف:
_ أنتم جميعًا أبنائي، مثل ليال وليا… رحمها الله. لو لم أدللكم، فمن سأدلل يا سراب؟
دخلت ندى، فانحنت احترامًا لعمه الملك، ثم اقتربت منه ليحتضنها ويقبل يدها.
قالت بخجل:
_ سامحني، مولاي، لم أقصد أن أقاطعك…
أجابها الملك بلطف:
_ لا بأس، صغيرتي، ماذا تريدين؟
التفتت إلى أخيها، ثم قالت ببراءة مصطنعة:
_ أخي، أمي تريدك.
رفع سراب حاجبًا، مدركًا أنها تكذب، فهو كان عند والدته قبل ساعة وكانت نائمة:
_ أهااا… حسنًا، يا مولاي، سأذهب إليها بعد إذنك.
أومأ الملك برأسه:
_ حسنًا، ربما اشتاقت إليك بعد رحلتك الطويلة.
ندى ابتسمت بمكر:
_ معك حق، مولاي. تصبح على خير.
غادرت القاعة بسرعة، فيما تبعها سراب، يمسك بيدها بخبث:
_ يا صغيرة، هل يمكنكِ أن تخبريني لماذا تكذبين؟ أنا كنت عند أمي قبل ساعة، وهي نائمة الآن… هاه، ماذا تخططين؟
ضحكت ندى بلطف، وهي تحاول تحرير يدها:
_ أفلت يدي! أريد فقط أن أطلب منك طلبًا صغيرًا جدًا… أهااا، ستوافق، صحيح؟ أخي الحبيب، لا أحد يساعدني غيرك…
سراب تنهد، ثم قال بنبرة مترددة:
_ حسنًا، قولي ما لديكِ… لكن على حسب الطلب.
قفزت ندى بحماس، وقالت بصوت ملؤه الرجاء:
_ نريد الخروج من القصر الليلة! لكن نحتاج إلى حارس يرافقنا… هيااا، من أجلي، أخي العزيز؟
لكن سراب نظر إليها بجدية، وقال بعد تفكير:
_ ندى، تعلمين أنني لن أوافق هذه المرة، نحن على وشك دخول منتصف الليل خلال ساعتين… الوضع ليس آمنًا تمامًا. سامحيني، لكن لا.
تجهم وجه ندى، وقالت بعصبية:
_ أنتَ أخ مزعج! لا أريد منك شيئًا بعد الآن!
ضربت يده بغيظ، ثم استدارت واختفت بين الممرات.
تنهّد سراب، يراقبها وهي تبتعد، قبل أن يهمس لنفسه:
_ لماذا تغضبين هكذا؟ كل هذا من أجل مصلحتكم… آمل فقط أن تبقى المملكة آمنة دائمًا.
ثم توجه إلى جناحه، بحاجة إلى نوم عميق بعد هذا اليوم الطويل.
•✠•❀••✠•❀••✠•❀•
رفعت ليال رأسها، متفاجئة من دخول ندى الغاضبة إلى القاعة، فسألتها بقلق:
_ ماذا حصل، ندى؟
لم تردّ ندى فورًا، بل توجهت إلى الطاولة، وأمسكت كأس الماء، تشربه دفعة واحدة وكأنها تحاول إخماد غضبها. ثم وضعت الكأس بقوة على الطاولة، قائلة بعصبية:
_ لم يقبل المزعج! كل مرة كان يوافق، لماذا هذه المرة مختلفة؟ لا يوجد سبب منطقي لرفضه!
أخذت نفسًا عميقًا، قبل أن تتابع بامتعاض:
_ لماذا لم تذهبن إلى بوابة القصر؟ آه، لا داعي لذلك، أخي العنيد لم يوافق…
أجوان، التي بدت غير متفاجئة، قالت بهدوء وهي تتكئ على الطاولة:
_ كنت أعلم أن أخي لن يوافق… ألم يقل لنا في المرة الماضية أنه لن يسمح لنا بالخروج ليلًا مرة أخرى؟
ثم ابتسمت بمكر وهي تنهض، مشيرة إلى الحديقة:
_ لكن لا داعي لإفساد ليلتنا! بدلًا من الغضب، لنذهب إلى الحديقة، على الأقل هناك يمكننا الاستمتاع بالجو الجميل بدلًا من عصبيتكِ المزعجة يا مدللة.
قبل أن تعترض ندى، أمسكت أجوان بيدها وسحبتها نحو الخارج، فيما تبعتها ليال وسديم، تضحكان على ردة فعلها الطفولية.
كان الجو في الحديقة هادئًا، والسماء تتلألأ بالنجوم، مما جعل الأجواء مثالية لإكمال سهرتهن بعد العشاء. جلست الفتيات يتبادلن الحديث والضحكات، بينما كانت سديم تشعر ببعض الإحراج، كما يحدث كل مرة تشارك فيها الأميرات الطعام في قاعة القصر أو في حدائق الأميرات الخاصة.
ورغم ذلك، كانت الأميرات يعاملنها وكأنها واحدة منهن، وليس كخادمة. بل أكثر من ذلك، حتى الملك والملكة كانا يحبانها، لأنها الوحيدة التي تعرف كيف تتعامل مع حالة ليال، وتمنحها الدعم الذي تحتاجه.
•✠•❀••✠•❀••✠•❀•
أشرقت شمس الصباح الدافئة، تزقزق العصافير مبشّرةً بيوم جديد، والنسيم العليل يلامس أوراق الأشجار برقة. كان فصل الربيع في أبهى حلله، حيث تفتحت الأزهار، وتعطرت الأجواء بنسيم الحياة.
في هذا الصباح الجميل، جلست الأميرة ليال مع والدها الملك، كما اعتادت في كل مرة يعود فيها إلى القصر. رغم انشغاله الدائم بحكم "الفردوس الأرض"، إلا أنه كان يحرص على قضاء كل لحظة ممكنة مع عائلته، وخاصةً مع أميرته المدللة.
أمسك الملك بفنجان من شاي الأعشاب الساخن، وتأمل ابنته بنظرة مليئة بالحب، وكأنه يراها لأول مرة، ثم قال بصوته الدافئ:
_ كيف حال أميرة قلبي؟
ليال، بابتسامة حزينة:
_ بخير يا أبي… ما دمتَ أنتَ وأمي بجانبي.
نظر إليها والدها بحنان، ثم تنهد قائلًا:
_ أعلم أنني مشغول كثيرًا في الفترة الأخيرة… سامحيني، يا ابنتي، إن كنت قد قصرت بحقك.
وضعت الملكة يدها على كتف زوجها بحنان، وقالت بصوت دافئ:
_ لا بأس يا نورسين، ليال تفهم ذلك جيدًا، ونحن جميعًا نشتاق إليك. لكن ثق بالله، الأمور ستتحسن قريبًا، ولن يضيعك الله أبدًا.
لكن ليال كانت تعلم تمامًا لماذا والدها مشغول… فمملكة "الجحيم الشمس" لا تكف عن تهديده. ومع ذلك، كانت تؤمن أن أباها أقوى من أي خطر، لكنها لم تستطع أن تتجاهل شعورًا مزعجًا يخبرها بأن هناك شيئًا سيئًا يلوح في الأفق.
ترددت قليلًا، ثم همست بصوت خافت، وكأنها تخشى أن تثقل كاهل والدها أكثر:
_ أبي… هل حقًا مملكة الجحيم الشمس تهددنا؟
ارتفع حاجباه قليلًا، لكنه لم يبدُ متفاجئًا، فأكملت كلامها بصوت مرتجف:
_ أبي، أنا أعرف الحقيقة… أعلم أن هذه الأيام التي كنتَ تسافر فيها كانت مليئة بالمخاطر، وأعلم أن قوتهم تزداد. أنت تخشى أن يأخذوا "الفردوس الأرض" منك، تمامًا كما فعلوا مع جدي الملك الرحال، أليس كذلك؟
كانت ليال مترددة وهي تبوح بما في قلبها، تشعر أن حمل الحقيقة ثقيل، لكنها لم تعد تحتمل الصمت. نظرت إلى والدها بعينين تملؤهما الدموع، وتكلمت بصوت مرتجف، تحاول أن تخفي ارتجاف شفتيها:
_ أبي… أعلم أن هناك خطرًا يهددنا، وأعلم أن مملكة الجحيم الشمس تزداد قوة، وأعلم أنك تخشى أن يكرروا ما فعلوه بجدي الملك الرحال… أرجوك، أخبرني الحقيقة كاملة.
تأملها الملك بصمت للحظات، وكأن قلبه يعتصر لرؤية صغيرته تتحمل هذا القلق. بدت عيناه مثقلتين بالحزن، لكنه لم يكن خائفًا على مملكته بقدر خوفه على أحبائه.
_ ليال، لستُ خائفًا لأنهم قد يأخذون "الفردوس الأرض"… أنا خائف مما قد يفعلونه بكم… أنتِ، أمكِ، إخوتي، شعبي، أصدقائي… أنتم جميعًا أبنائي، ولن أسمح لأي يدٍ أن تمسكم بسوء.
كان صوته يحمل حرقة عميقة، وكأن قلبه يشتعل قلقًا، لكنه سرعان ما كبح مشاعره، وتنهد ببرود، كمن اعتاد على مواجهة المصاعب:
_ طوال هذه الفترة، لم أذق طعم الراحة، لم أعرف للنوم طعمًا… أقل من نصف الأرض بات لنا، فقد انتزعوا منا جزءًا كبيرًا، ولا أعلم متى ستنتهي هذه الحرب.
تقدمت الملكة نحوه، احتضنته بحنانٍ غامر، تشعر بثقل العبء الذي يحمله، لكنها تعلم أنه أقوى من كل هذه الأحزان.
ليال لم تستطع منع نفسها من البكاء، أمسكت بيد والدها، ودموعها تنساب على وجنتيها:
_ أبي، يا ليتني كنتُ رجلًا، لكنتُ خففت عنك هذا الحمل.
ابتسم الملك رغم حزنه، وربت على رأسها بحنان:
_ لا تقولي ذلك، أنتِ بالنسبة لي ألف رجل، بل أكثر… أميرتي، لا تبكي، سنكون بخير..... الله لن يخذلنا.
أطبقت ليال أصابعها على يده بقوة، وكأنها تريد أن تتمسك به أكثر، أن تشعره بأنها هنا معه مهما كان القادم صعبًا.
حاولت الملكة أن تلطف الأجواء، فقالت بابتسامة دافئة:
_ بالتأكيد لن يخذلنا الله، ولكن...... لمَ كل هذا الحزن منذ الصباح؟ ألا تشعرون بالجوع؟
نظر إليها الملك مبتسمًا:
_ وأنتِ أيضًا بكيتِ.
ضحكت الملكة بخفة، لكن الملك اقترب منها وقبّل جبينها بحب، ممتنًا لوجودها إلى جانبه دائمًا.
دخلت إحدى الخادمات، وانحنت باحترام:
_ الإفطار جاهز يا مولاي.
أومأ الملك برأسه وقال:
_ هيا، أميرتي وملكتي.
توجهوا إلى قاعة الطعام، حيث اجتمع كل الأمراء والأميرات حول المائدة، التي امتلأت بأشهى المأكولات، لكن ليال لم يكن لديها أي شهية وكأن ثقل الأفكار قد سدّ جوعها تمامًا.
•✠•❀••✠•❀••✠•❀•
في مكان بعيد…
في ساحة التدريب داخل مملكة الجحيم الشمس، كان الأمراء يتدربون بجدية… التدريب بالنسبة لهم ليس مجرد عادة، بل هو أسلوب حياة.
لكن واحدًا منهم كان مختلفًا… "أمير شمس".
لم يكن يحب التدريب كما يفعل إخوته، ربما لأنه قضى السنوات الخمس الماضية في تعلم كل ما يمكنه عن القتال، لكنه ببساطة لم يعد يجد شغفًا في ذلك.
كان يجلس بعيدًا عنهم، متكئًا على سيفه، ينظر إليهم بملل، يشعر أنه موجود هنا فقط لأن والده أجبره على ذلك.
لكن داخله كان هناك شيء آخر… شيء لم يخبر به أحدًا.
نظر إلى السماء بتنهيدة عميقة، وهمس لنفسه:
_ أمي..... يا ليتني كنتُ معكِ، فالحياة هنا مؤلمة جدًا… رحمكِ الله يا أمي.
نظر إلى الأرض للحظة، ثم نهض واقفًا، ممسكًا سيفه بقوة… فحتى لو لم يكن يحب هذه الحياة، لم يكن لديه خيار آخر سوى أن يكون جزءًا منها.
•✠•❀••✠•❀••✠•❀•
يتبع…
Comments