كانت نظرةً غامضة. مزيجٌ من حرارةٍ غريبة وإصرارٍ هادئ، نظرةٌ ثابتةٌ وساكنة.
لم تُدِر ليليث بصرها بعيدًا، بل واجهت تلك النظرة مباشرة.
وهكذا، تبادل الاثنان النظرات لفترةٍ من الزمن.
حينها...
"زينون!"
نادى أحدهم على الرجل بصوتٍ عالٍ. لقد كانت روزالين.
نظرًا لسمعة ليليث، كانت تتعمد أن تبقي مسافةً بينها وبين أختها،
لذا اكتفت بمراقبتها من بعيد.
استدار الرجل بشكلٍ غريزي نحو الصوت، وعندما رأى روزالين،
ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة.
بينما انطلقت روزالين نحوه بابتسامةٍ مشرقة.
"لقد اشتقتُ إليكَ."
كانت عينا روزالين تلمعان قليلًا.
كانت الدموع تسيل من فرحتها بلقاء حبيبها السابق،
وكانت تبدو مشرقةً بجمالها الأخّاذ.
ابتسم زينون بهدوءٍ ولطف، فقابلته روزالين بابتسامةٍ مماثلة.
"يا لهما من ثنائيٍ مثالي!"
قالت إحدى السيدات النبيلات وهي تضحك برقة.
"نعم، أليس كذلك؟"
بدأت ليليث تشعر بنظرات الناس تراقبها.
تلك النظرات التي تحمل السخرية، مثل نظرات الأميرة إيلين.
كان من السهل تجاهل كل ذلك،
ولكن ربما كان ظهور ذلك الرجل أمامها اليوم يجعلها تشعر بثقلٍ إضافي.
حاولت ليليث أن تحافظ على مظهرها الهادئ بقدر الإمكان،
لكنها لم تكن واثقةً من قدرتها على ذلك.
"على أي حال، أليس الأمر مثيرًا للفضول؟"
سمعت ليليث همساتٍ جانبية بالقرب منها.
"ماذا تعني؟"
"أعني شريكة البطل المستقبلي."
خفضوا أصواتهم كما لو كانوا يشاركون سرًا.
"من يا تُرى ستفوز بمكانها بجانب البطل؟"
كان المقصود بالطبع الأميرة إيلين وروزالين.
قبضت ليليث يديها بإحكام. شعرت بألم أظافرها وهي تغرز في كفيها.
كانت تعلم أن هذا ليس صحيحًا، لكن في مثل هذه اللحظات،
كانت تشعر برغبةٍ جارفة في مواجهة هؤلاء المتحدثين.
كانت قادرةً على تحمل كل ما يُقال عنها،
ولكنها لم تكن تستطيع تحمل أن تصبح روزالين موضوعًا للتسلية التافهة للآخرين.
"هل نراهن على ذلك؟"
"فكرة رائعة!"
"سأراهن على الأميرة."
"حقًا؟ أما أنا فأفضل الخيار الآخر..."
تلى هذا ضحكاتٌ متواصلة.
"هاهاها، في النهاية، أيًّا يكن الفائز، سيكون الأمر ممتعًا."
لم تستطع ليليث الصبر أكثر.
"ليليث، هل أنتِ بخير؟"
سألها كارل بصوتٍ قلق بعد أن لاحظ حالتها.
أغمضت ليليث عينيها ببطء، ثم فتحتهما مجددًا.
"أنا بخير."
كل هذا كان متوقعًا. لا داعي للمبالغة في رد الفعل.
رغم أنها حاولت تهدئة نفسها،
إلا أن الصداع النصفي الذي بدأ منذ قليل لم يُظهر أي علامة على التراجع.
تنهدت ليليث تنهيدةً عميقة دون وعي.
"لا، هذا لا يحتمل."
"ماذا تقصدين؟"
لم تُجب ليليث على سؤال كارل، بل بدأت بالسير.
سمعت صوته يناديها من الخلف، لكنها تجاهلته تمامًا.
سارت بخطواتٍ سريعة، إلى أن وصلت إلى الشرفة.
عندما استنشقت الهواء النقي، شعرت بأن الألم قد خفّ قليلًا.
تنفست بعمق، كما لو أن صدرها عاد يتسع أخيرًا.
وضعت يدها على جبهتها، وتقدمت نحو الدرابزين.
كان الأمر أشبه بالهرب.
عندما هدأت قليلًا، استرجعت ليليث حالتها وابتسمت بسخرية من نفسها.
رغم أن السبب كان الصداع،
إلا أن النتيجة النهائية كانت أشبه بفرارها من ذلك الرجل.
'لا، ربما في الحقيقة كنت أهرب حقًا.
ربما كان هذا الصداع النصفي مجرد حجّةٍ...'
اجتاح ليليث شعور عميق بالهزيمة.
إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أنها تخشى ذلك الرجل.
يا لها من فكرةٍ بائسة!
استندت ليليث إلى الدرابزين ورفعت رأسها لتحدق في السماء.
كان الهلال يضيء بلون أبيض خافت.
وبينما كانت تتأمل ذلك النور الباهت، غاصت في أفكارها.
'يا لها من ليلة مزعجة...'
ليلة لا شيء فيها يسير على ما يرام، ليلة مروعة وقذرة بكل ما تعنيه الكلمة.
رغم أن ليليث حضرت الكثير من المناسبات التي جعلتها تشعر بعدم الارتياح،
لم تكن هناك ليلة سيئة مثل هذه.
رغبت بشدة في الهروب من هذا المكان، رغم علمها أن ذلك مستحيل.
"كم أنا سخيفة..."
تنهدت ليليث وهمست لنفسها.
لم يعجبها هذا الشعور. ففي مثل هذه الليالي، كانت دائمًا ما تتذكره.
الشخص الذي لم تعد تستطيع رؤيته مجددًا.
نظرت ليليث إلى كفها بصمت. كانت هناك ندبةٌ صغيرة كأنها أثر جرحٍ قديم.
ذلك الجرح الطويل أصبح الآن بالكاد مرئيًا،
بفضل العلاج الذي تلقته بعد تقديمها تبرعًا كبيرًا للمعبد.
لكن ذكرى ذلك اليوم لم تختفي أبدًا.
قبضت ليليث يدها بإحكام،
محاولةً طرد تلك الصورة المحفورة في ذاكرتها.
وبمجرد أن استحضرت ذلك اليوم،
شعرت فجأة بشيء من الهدوء يتسلل إلى داخلها.
'مهما حدث اليوم، فلن يكون أسوأ من ذلك اليوم..'
بدأ الصداع النصفي الذي أرهقها طوال المساء يخف تدريجيًا.
يا للسخرية، أن يزول الألم بمجرد التفكير في سبب نشوئه.
لكن في النهاية، لم يكن من الممكن أن تبقى هكذا إلى الأبد.
'حان وقت العودة.'
استدارت ليليث ببطء للعودة إلى قاعة الحفل.
لكن في تلك اللحظة، دخل أحدهم إلى الشرفة.
رفعت ليليث رأسها فورًا عند شعورها بحركة غريبة.
وعندما رأت هوية الشخص الذي دخل، تجمدت في مكانها.
"لقد مرَّ وقتٌ طويلٌ، أيُّتها الآنسة الكبرى."
قال زينون ذلك بانحناءة خفيفة.
كان زينون ماير يقف أمامها،
ينظر إليها بنفس النظرة التي لم تتغير منذ أربع سنوات.
'ما الذي يفعله هذا الرجل هنا؟'
لم تستوعب الموقف تمامًا. بدا الأمر وكأنه حلم غريب،
لكنه كان أشبه بكابوس.
حاولت ليليث استعادة رباطة جأشها،
"لم أعد الآنسة الكبرى بعد الآن."
عند كلماتها، بدت شفتا زينون وكأنهما تتحركان للتحدث،
لكنها قاطعته.
"لذا، توقف عن مناداتي بذلك اللقب."
كان صوتها قاطعًا، يخفي خلفه شعورًا بالاستياء.
نظرت ليليث إلى زينون ماير بتمعن.
كان عن قرب يشبه كثيرًا الشخص الذي كانت تعرفه من قبل،
بعينيه العميقتين الخالية من التعبير ووجهه الهادئ.
كانت ملامحه متقنة وجميلة بشكل لا يعكس أبدًا خلفيته كعبد سابق.
ولكن، في الوقت نفسه، بدا وكأنه شخص مختلف تمامًا.
بدا الآن كرجل ناضج، تحمل نظراته هالة من النضج لم تكن موجودة من قبل.
شعرت ليليث بأن هذا التغير جعله يبدو غريبًا عنها.
لكن، مهما كان، هذا لا يغير شيئًا.
لم يكن زينون ماير سوى مصدر إزعاج بالنسبة لها.
"أنا أعتذر."
كانت كلمات زينون قصيرة، بينما خفض بصره إلى الأرض.
رغم أنه لم يعد بحاجة إلى الانحناء لها،
إلا أن هذا الجزء من شخصيته ظل كما هو.
للحظة، شعرت ليليث وكأنها عادت بالزمن إلى أربع سنوات مضت.
في ذلك الوقت، كان زينون يعمل خادمًا لروزالين.
ولكنه لم يكن يقوم سوى بمهام قليلة،
معظمها تلبية طلبات روزالين البسيطة.
فلم يكن من المنطقي أن يُطلب من عبد سابق القيام بمهام خادم رسمي.
كان يُطلق عليه لقب خادم،
لكنه كان أشبه بخادم عادي بلا مهام مميزة.
الشيء الوحيد الذي ميَّزه هو تلقيه محبة الابنة الصغرى روزالين،
فقد كان يبدو كزميل لعب أكثر من كونه خادمًا حقيقيًّا لها.
ومع ذلك، لأنه تلقى بعض التعليم الجيد،
لم يكن يتصرف بشكل يتجاوز حدوده أبدًا.
باستثناء بعض الأمور التي تتعلق بروزالين فقط.
استدعت ليليث ذكرى من الماضي فجأةً،
فظهر على وجهها تعبيرٌ منزعج.
مهما كانت الذكرى التي تستحضرها عن هذا الرجل،
فإنها دائمًا ما تثير الاشمئزاز في نفسها.
"إن كنت قد انتهيت من تقديم تحياتك، ألن تتنحى جانبًا؟
فأنت تسد الطريق، ولا أستطيع العودة."
قالت ليليث بصوت بارد، موجّهة حديثها إلى زينون الذي كان يقف أمام الباب.
لكن على عكس توقعها بأن يتحرك بسرعة،
لم يفعل شيئًا سوى أن يحدّق بها بصمت.
كانت عيناه الرماديتان العميقتان تحملان حرارة غامضة.
بدا وكأنه يريد شيئًا، ولكن ليليث لم تكن ترغب في التفكير كثيرًا في الأمر.
شعرت بالإرهاق من هذا الموقف غير المتوقع.
بدا وكأن صداعها الذي كان قد اختفى قد بدأ يعود.
بشكلٍ عفوي، وضعت يدها على جبينها.
"هل أنتِ بخير؟"
سأل زينون بنبرة قلق، بينما ردت ليليث وهي ما زالت تنظر إلى الأرض.
"هذا ليس من شأنك."
كان جوابها الحاد أشبه بردِّ فعلٍ غيرِ واعٍ.
كانت هذه استجابةً عاطفية، وهذا ليس أمرًا جيدًا.
في وجود هذا الرجل فقط، كانت أعصاب ليليث دائمًا مشدودة.
ولم تكن تحب ذلك.
فكرة أنها تفقد رباطة جأشها إلى هذا الحد أمامه كانت تزعجها بشدة.
"يبدو من مظهركِ أنكِ لستِ على ما يرام."
وصل صوته العميق إلى مسامعها. رفعت ليليث رأسها لتنظر إليه.
كان زينون يقف هناك منتظرًا ردها،
مع خفض بصره بهدوء.
لفت انتباهها الرموش الطويلة التي خلّفت ظلًا واضحًا على وجهه،
وأطراف أذنيه التي احمرّت قليلاً. كان ذلك مشهدًا مألوفًا لها تمامًا.
في تلك اللحظة،
أدركت ليليث أن زينون لم يتغير سوى في مظهره الخارجي فقط.
بدا أنها بالغت في رد فعلها، وشعرت بأنها تصرفت بسذاجة.
'صحيح، هذا الرجل كان دائمًا مطيعًا. ليس فقط لروزالين، بل لي أيضًا...'
كانت تدرك هذه الحقيقة جيدًا.
زينون ماير لن يتمكن أبدًا من إيذاء ليليث بلين، وكان هذا أمرًا واضحًا تمامًا.
وفجأة، شعرت ليليث برغبة في سؤاله.
"هل لديك شيء لتقوله لي؟"
تفاجأ زينون من سؤالها وفتح عينيه على اتساعهما.
نظرت ليليث مباشرة في عينيه وتابعت،
"لقد أتيت خصيصًا لرؤيتي، أليس كذلك؟ إذًا، يبدو أن لديك أمرًا ما. أليس كذلك؟"
"أنا..."
فتح زينون فمه بحذر،
لكنه لم يستطع متابعة حديثه، وكأنه تردد في النطق بما أراد قوله.
'يا للسخف...'
فكرت ليليث بلا مبالاة.
شعرت بالضيق لأنها أعطت هذا الرجل فرصة لإثارة قلقها ولو للحظة قصيرة.
حينها بدأت تتحرك عائدة إلى قاعة الحفل،
"إن لم يكن لديك ما تقوله، سأغادر. إلى اللقاء."
في تلك اللحظة، تكلم زينون أخيرًا.
"في السابق..."
توقفت ليليث واستدارت لتنظر إليه. بدا زينون وكأنه قد اتخذ قرارًا،
إذ نظر إليها بنظرة عازمة
"في الليلة التي سبقت حفلَ الوداع، هل تذكرين ما قلتيه لي؟"
Comments