لغة صامتة

الفصل الخامس: لغة صامتة

منذ أن بدأت ملامح جسدها تتغير، شعرت أن العالم يلتفت إليها بطريقة مختلفة. لم يعد وجودها عابرًا كما في الطفولة، صار جسدها يسبقها إلى كل مكان، يعلن عنها قبل أن تتكلم، ويضعها في قوالب جاهزة لم تختَرها.

أول مرة أدركت ذلك كانت في سن الثالثة عشرة، حين علّقت إحدى الجارات بصوت مسموع: "كبرت البنت، لازم تنتبه على حالها."

كانت كلمات عابرة، لكنها وقعت عليها كحجر ثقيل. لم تفهم لماذا صار جسدها شأنًا عامًا، ولماذا صار لزامًا عليها أن "تنتبه"، كأنها خطر يسير على الأرض.

وقفت أمام المرآة تلك الليلة، تحدّق في نفسها طويلًا. كان شعرها قد طال، وملامحها بدأت تأخذ هيئة أنثى صغيرة. ارتبكت بين الفرح والخوف. شعرت أنها جميلة، لكنها خافت أن تكون هذه الجمال لعنة تجذب العيون. لم تعرف هل تحتفل بجسدها أم تخفيه.

ومع مرور الوقت، ازدادت التناقضات. في المدرسة، كانت تسمع صديقاتها يتحدثن عن الحمية، عن الوزن، عن الطول، وعن المقارنات المستمرة مع نجمات التلفاز. وفي البيت، كان الحديث عن الحشمة والاحتشام والأعراف لا يتوقف. صارت تشعر أن جسدها ليس ملكًا لها، بل ساحة صراع بين رغبات المجتمع، توقعات الأسرة، وأحكام الآخرين.

لكن في داخلها، كان للجسد معنى آخر. كان مساحة سرية للتعبير، لغة صامتة لا يعرفها أحد. حين ترقص في غرفتها بعيدًا عن العيون، كانت تشعر بحرية مطلقة، كأن كل حركة تقول: "أنا موجودة، أنا أختار."

وحين تجلس صامتة أمام كتاب، وتضم ركبتيها إلى صدرها، كان جسدها يصبح حصنًا يحميها من العالم الخارجي.

ورغم ذلك، لم تكن قادرة على تجاهل القلق. كل نظرة عابرة من غريب في الطريق كانت كافية لتجعلها ترفع رأسها بحذر أو تسرع خطواتها. كل تعليق غير مقصود كان يزرع فيها ارتباكًا أكبر. كانت تشعر أحيانًا أنها تعيش في جسد لا تعرفه، جسد يفرض عليها معارك يومية، بين رغبتها في أن تحب نفسها كما هي، وبين صوت الآخرين الذي يحاول أن يحدد قيمتها.

في مرحلة المراهقة، تزايدت هذه الأسئلة. وقفت يومًا أمام المرآة، تحاول أن ترى نفسها كما هي، بلا أحكام. لمست كتفيها، وجسدها الذي لم يكتمل بعد، ثم همست: "هذا أنا… لماذا أخاف مني؟"

لم يكن جوابًا حاضرًا، لكن السؤال وحده كان بداية مصالحة طويلة مع الجسد.

حين جاءت الدورة الشهرية الأولى، شعرت أن العالم بأسره تغيّر. بين فرحة الأم التي رأت في الأمر دليل نضج، وخوفها هي من الدم الذي جعلها تحس بالضعف، نشأت علاقة متوترة بين الأنوثة والجسد. صارت تدرك أن أنوثتها تحمل أثقالًا حيوية واجتماعية في آن واحد.

مع الوقت، تعلمت أن تنصت أكثر إلى جسدها، أن تفهم إشاراته: التعب الذي يطلب الراحة، الارتجاف الذي يعلن الخوف، والخفقان السريع الذي يكشف الشغف. صار الجسد بالنسبة لها كتابًا مفتوحًا بلغة صامتة، لا يقرأه إلا من يصغي بصدق.

لكن التصالح لم يكن سهلًا. في مجتمع لا يرى في الجسد إلا موضوعًا للمراقبة أو النقاش، كان عليها أن تجد طريقًا خاصًا. أحيانًا شعرت أنها تريد أن تختفي، أن تغطي كل تفاصيلها، وأحيانًا أخرى أرادت أن تحتفل بجمالها بصوت عالٍ. هذا التذبذب جعلها أكثر وعيًا بأن الجسد ليس مجرد صورة في المرآة، بل هو مساحة للحرية أو للسجن، بحسب ما تختار.

ومع نضجها، بدأت تكتب في دفاترها الصغيرة عن هذه العلاقة المعقدة. كتبت:

"جسدي ليس عيبًا ولا ملكًا للآخرين. هو قصتي، لغتي، طريقتي لأكون."

كل كلمة كانت محاولة لاستعادة ملكيتها على ما سُلب منها بصمت.

في لحظة صدق أمام نفسها، اعترفت بأنها لا تريد جسدًا كاملًا بلا عيوب كما تتمنى الفتيات الأخريات. تريد جسدها كما هو، بضعفه وقوته، بجراحه الصغيرة، وبقدرته على أن يكون شاهدًا على كل ما مرّت به. أدركت أن أجمل ما فيه أنه يحملها، أنه ظلّ معها في كل العثرات والقيام.

في النهاية، عادت مرة أخرى إلى المرآة. هذه المرة، لم تنظر بخوف ولا ارتباك، بل بابتسامة صغيرة. لم يعد جسدها عدوًا ولا عبئًا، صار رفيقًا، لغة صامتة لكنها صادقة، تخبرها أنها أنثى على طريقتها، لا كما يريد الآخرون.

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon