الفصل الرابع: الحب الأول – ارتباك القلب
الحب الأول… ذلك الذي يشبه المطر حين يهطل فجأة على أرضٍ عطشى، يتركها ندية مرتبكة، لا تعرف إن كانت تستمتع بالبلل أم تخشى الغرق.
بالنسبة لها، جاء الحب كهمسة عابرة، ثم تحول إلى عاصفة لم تستطع الفكاك منها.
كانت في السادسة عشرة، حين رأت زميلًا جديدًا يدخل الصف، يحمل حقيبةً عادية وابتسامةً غير عادية. لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الآخرين، لكنه بدا وكأنه يرى العالم بطريقة أخرى. لم تنسَ كيف جلس في المقعد الأخير، وكيف لمحها صدفة وهي تكتب بخطٍ مرتبك على دفترها. نظرة واحدة كانت كافية لتشعل في قلبها فضولًا لم تعرفه من قبل.
في الأيام التالية، صارت تلاحظ وجوده أينما ذهبت. يضحك مع أصدقائه في الساحة، يشارك في مباريات كرة القدم، يمر بجانبها دون أن يقول شيئًا، لكن مجرد اقترابه كان كافيًا ليجعل قلبها يخفق بسرعة غريبة. لم تكن معتادة على هذا الشعور؛ ارتباك يتسلل إلى وجنتيها، ابتسامة تحاول إخفاءها، وخوف من أن يكتشف أحد سرها.
لم تجرؤ على الاعتراف حتى لصديقاتها. كانت تعرف أن أي كلمة ستتحول إلى ضحكات خفية، وربما إلى إشاعات. فاحتفظت بمشاعرها داخلها، وبدأت تكتب على أوراق صغيرة لا يراها أحد: "عينيك تفضحانني، وصمتي يحميني."
كانت تلك الأوراق أول محاولة لها للتعبير عن نفسها بصدق، كأن الحب فتح بابًا لموهبة لم تكن تدري بوجودها.
وذات يوم، حدث ما لم تتوقعه. في استراحة قصيرة، سقط قلمها على الأرض، فالتقطه هو وأعطاه لها. كانت لحظة عابرة، لكنها بالنسبة لها بدت كأن الزمن توقف. قالت "شكرًا" بصوتٍ خافت، ورد بابتسامة هادئة جعلتها تشعر أن الأرض تميد تحت قدميها. لم يكن حدثًا عظيمًا في أعين الآخرين، لكنه كان كافيًا ليصبح ذكرى لا تُنسى في قلبها.
شيئًا فشيئًا، بدأت علاقتها به تتخذ شكلًا خفيًا. لم يتبادلا الرسائل ولا الكلمات الكبيرة، لكن هناك إشارات صغيرة كانت تكفي: نظرة سريعة في الصف، ابتسامة مترددة في الممر، أو مرور متعمد بجوارها. كانت هذه العلامات بالنسبة لها عالمًا كاملًا.
لكن الحب الأول لا يرحم. يحمل في داخله حلاوة الاكتشاف ومرارة الفقد. في نهاية العام الدراسي، انتشرت أخبار بأن عائلته ستنتقل إلى مدينة أخرى. شعرت أن شيئًا ما ينكسر بداخلها. لم تملك الجرأة لتسأله أو تواجهه، لكنها عرفت من عينيه أنه يعرف بما تشعر به، حتى لو لم يتكلما يومًا عن الأمر.
في آخر يوم له في المدرسة، رأت حقيبته على كتفه، وابتسامته المعتادة معلقة على وجهه. أرادت أن تقول شيئًا، أي شيء، لكن الكلمات رفضت أن تخرج. كل ما استطاعت فعله هو أن تنظر إليه طويلًا، كأنها تحاول أن تحفظ ملامحه في ذاكرتها. حين ابتعد، شعرت أن جزءًا منها يرحل معه.
ليالٍ طويلة قضتها في البكاء بصمت. لم يكن الحزن فقط لأنه رحل، بل لأنه أيقظ فيها شعورًا جديدًا لم تعرف كيف تتعامل معه. صارت تكتب أكثر، تدون مشاعرها في دفتر سري، وكأنها تحاول أن تضع قلبها على الورق لتخفف من ثقله.
مع الوقت، بدأت تفهم أن الحب الأول ليس بالضرورة قصة مكتملة، بل درس أول. علّمها كيف يمكن للقلب أن يضطرب بسبب نظرة، وكيف يمكن للروح أن تتعلق بابتسامة. علّمها أن المشاعر لا تحتاج إلى إعلان كي تكون حقيقية، وأن أجمل ما في البدايات هو براءتها، حتى وإن انتهت بصمت.
وحين عادت إلى المرآة، التي كانت رفيقة رحلتها، نظرت إلى وجهها بعين جديدة. لم تعد الطفلة التي تركض في الباحة، ولا المراهقة المتمردة فقط. صارت فتاة تعرف أن قلبها قادر على الخفقان، وأن الأنوثة ليست مجرد جسد يتغير، بل روح تتفتح على تجربة لم يسبق لها أن عرفتها.
ذلك الحب الأول لم يستمر، لكنه ترك بصمته للأبد. صار ذكرى خفية تضيء في أعماقها كلما شعرت بالوحدة، كنجمة بعيدة لا تُرى بوضوح، لكنها تذكّرها دومًا بأنها قادرة على الحب، وقادرة على الشعور، وقادرة على أن تعيش قصة حتى وإن لم تُكتب لها نهاية.
---
نهاية الفصل الرابع
Comments