أكساتسي.
الثلوج كانت تتساقط بهدوء على موسكو، كأنها ستارة بيضاء تغطي المدينة بأضواءها الذهبية والصفراء. من نافذة الشقة الكبيرة، كان منظر المدينة يبدو كلوحة تنبض بالحياة، رغم الصمت الذي يكتسح الشوارع في هذه الساعة المتأخرة من الليل. داخل الشقة الواسعة، كانت آناستاسيا واقفة في منتصف الغرفة، ترتدي زي الباليه البسيط، أصابعها الرشيقة تتنقل على الأرض الباردة وكأنها تعزف موسيقى لا يسمعها أحد سوى قلبها.
كل حركة كانت محسوبة بدقة، كل التفاف وكل قفزة كانت تحمل لغة صامتة تعبر عن مشاعر لم تجد الكلمات لتسكنها. المرآة الكبيرة على الجدار أمامها كانت تعكس كل تفاصيل جسدها الممتد بانسيابية مذهلة، الضوء الخافت يلعب مع الانحناءات والظل، يخلق معها رقصة بين الحقيقة والخيال.
آنا كانت جميلة بطريقة لا يمكن وصفها بالكلمات. جمالها لم يكن مجرد مظهر؛ بل كان توازنًا بين القوة والرقة، الحرية والصمت، الحياة والموت الذي خلفه والدها الذي لم يحبها أبدًا. كل نظرة من والدها كانت عبارة عن حكم غير مكتوب، كل كلمة نقد كانت تضغط على قلبها الصغير منذ صغرها، وكل ذكرى أمها الميتة كانت تعيدها إلى صراع داخلي لا ينتهي.
فالورينا، صديقتها المقربة، جلست في زاوية الغرفة على كرسي صغير، تحتسي كوب شاي دافئ، تراقب آنا وهي تتحرك. لم تتدخل، فقط كانت هناك كصوت صامت يملأ الفراغ ويمنح آنا شعورًا بالأمان.
"آنا… كل ليلة أراك تتحركين وكأنك تحاولين نقل شيء من داخلك إلى العالم كله"، قالتها بصوت خافت.
آنا ابتسمت بخجل، لكنها لم تتحدث. وجود فالورينا جعل الغرفة أقل برودة، أقل وحدة، وكأن صديقتها كانت جسرًا بين العالم الداخلي والواقع الخارجي الذي يضغط عليها باستمرار.
الموسيقى كانت في رأسها فقط، لكن كل نغمة كانت تتحرك معها، تصنع حركاتها أكثر دقة، أكثر عمقًا، كل قفزة وكل التفاف كان صرخة صامتة للعالم: أنا موجودة، أنا قوية، أنا حرّة.
كانت تفكر في والدها دائمًا، في مدى قسوته، في كل كلمة قالها عنها منذ صغرها. ذكريات طفولتها كانت مليئة باللوم والضغط، لكنها لم تكن كلها سيئة؛ كانت هناك لحظات قليلة من دفء، أحيانًا من أمها، أحيانًا من صديقة وفية، لحظات جعلت قلبها يستمر في النبض بالرغم من الوحدة.
آنا تحب شقتها الفخمة، لكنها تعرف أن الثراء لا يعني الحرية. كل غرفة، كل نافذة، كل قطعة أثاث كانت تذكّرها بالقيود التي يعيشها الجميع، حتى هي. الأرضية الباردة تحت قدميها، الستائر الخفيفة التي تتحرك مع الرياح، الضوء الذي يعكس نفسها في المرآة – كل شيء كان يروي قصة حياتها، صمتها، معاناتها، وقوتها الخفية.
مع مرور الوقت، أصبحت حركاتها أكثر ثقة وأكثر انسيابية. كل تدريب، كل مساء، كان يضيف شيئًا جديدًا لروحها. أحلامها الكبيرة بالوصول إلى قمة الباليه، أن تصبح البريما الأولى في البولشوي، كانت تتشبث بها وتدفعها للأمام. لكنها تعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، ليس فقط بسبب المنافسة، ولكن بسبب والدها الذي لم يرى في حياتها سوى انعكاس لماضيه أو لفقده لأمها.
فالورينا لم تتدخل، لكنها كانت تشاهد، تشعر، وتسمع صمت آنا بقلوبها. صمت مليء بالمعاني: القوة، الرقة، الألم، الحرية. كل خطوة على الأرض، كل دوران، كل قفزة كانت تعبر عن شيء داخلي لم ير النور من قبل.
آنا توقفت للحظة، نظرت إلى المدينة، شعرت بالوحدة، لكنها لم تكن حزينة. هذه اللحظات، رغم أنها قصيرة، كانت ملكها وحدها. هنا فقط، في هذا العالم الصغير، كانت حرة. كانت تستطيع أن تحلم، أن تخطئ، أن تقع، أن تنهض من جديد دون أي رقابة أو خوف من الأحكام.
تذكرت أمها، ضحكتها، لمستها الدافئة، كيف كانت تغني لها في الصباح الباكر قبل أن يبدأ والدها باللوم والنقد. تلك اللحظات القليلة كانت تنبض بالحياة، لكنها كانت أيضًا تذكرها بالفراغ الكبير الذي تركته وفاتها، الفراغ الذي حاول والدها ملؤه بالسيطرة والغضب.
الليلة كانت أكثر من مجرد تدريب. كانت طقسًا روحانيًا، لحظة تأمل، هدوء، قوة داخلية. كل حركة كانت تنقلها من غرفة إلى أخرى في عقلها، من ذكرى إلى حلم، من ألم إلى أمل.
الثلج استمر في التساقط، أضواء المدينة تتلألأ، والهواء البارد يمر عبر شقوق الشباك، يحرك الستائر الخفيفة، كأن الطبيعة كلها تشاركها هذا الهدوء الغامض.
آنا أنهت تمرينها بخطوة بطيئة، تنفست بعمق، جلست على الأرض، تلمس الزجاج البارد للشباك. شعرت بالقوة، بشيء من الحرية، بشيء من الرضا عن نفسها. كل شيء حولها، كل تفاصيل الغرفة، كل الضوء والظل، كل تحريك للأصابع، كان جزءًا من حياتها، جزءًا من قصتها التي ستستمر مهما كانت التحديات.
فالورينا وقفت بجانبها، وضعت يدها على كتفها، وابتسمت. لم يكن هناك كلام، فقط حضور صامت، شعور بالأمان والراحة، وكأن العالم كله اختفى، وبقي فقط قلبان ينبضان في هدوء الليل.
آنا أغلقت عينيها للحظة، استنشقت الهواء، وعرفت في أعماقها أن هذا هو عالمها الحقيقي: الرقص، الصمت، الجمال، القوة، الحرية، ولو لم يعرف بها أحد بعد.
---
Comments