امتلأت قاعة الطعام في الصباح بالطلاب، أطباق تُملأ وتُفرغ بسرعة، وضجيج يعكس آلاف الأصوات المتداخلة.
في زاوية بعيدة، جلس راكان كالعادة، صامتًا، أمام طاولة فارغة لا تحمل شيئًا غير كوب ماء.
اقترب منه طالب من شلة عبد العزيز، طويل، قوي البنية، يحمل صينية طعامه بيد واحدة كأنها لا تزن شيئًا.
جلس أمامه مبتسمًا وقال:
– "يا رجل… من يوم جيت الأكاديمية وأنا أشوفك ما تلمس الأكل. ناوي تصوم لين تتبخر؟"
رفع راكان رأسه، نظرة باردة ثابتة، ثم قال بهدوء:
– "ما أحتاج."
ضحك الشاب ومدّ يده مصافحًا:
– "أنا أحمد… من جماعة عبد العزيز. بس بالله عليك، كيف ما تحتاج؟! كلنا نلهث في التمارين ونموت من الجوع، وأنت واقف كأنك جبل."
وللمرة الأولى منذ دخوله الأكاديمية…
انفرجت شفتا راكان بابتسامة قصيرة، تبعها ضحكة خفيفة سرعان ما أخفاها.
قال وهو يشيح بوجهه:
– "يمكن الجوع يخليكم ضعاف… أنا تعودت أعيش من غيره."
تسمرت عينا أحمد عليه بدهشة.
هذا الغريب… لا يأكل، لا ينهك في التدريبات، لا يتذمر… وكأن داخله طاقة لا تنفد.
ابتسم أحمد وقال بنبرة إعجاب صادق:
– "والله إنك غريب يا راكان… لكن غريب يعجبني."
ضحك راكان هذه المرة ضحكة أوسع قليلًا، قبل أن ينهض فجأة، يترك الكوب فارغًا خلفه، ويتجه إلى ساحة التدريب بخطوات ثابتة، كأنه لا يعرف التعب ولا الملل.
أحمد ظل ينظر إليه، وهو يتمتم:
– "هذا الولد… مو عادي أبداً."
ظل فوق الأكاديمية :-
كانت الرياح الباردة تتسلل بين أسوار الأكاديمية العالية، تحمل معها أصوات الليل البعيدة من القاعات والسكن.
راكان يمشي بخطوات هادئة على سطح الأكاديمية، حيث تصطف حجارة الممر مثل صفوف جنود صامتة، المكان الذي اختاره دائمًا ليكون بعيدًا عن الضوضاء، بعيدًا عن العيون.
نور القمر يعكس ظلّه الطويل على الأرض، فتظهر ملامحه الحادة وكأنها منحوتة من الصخر، عيناه السوداوان تتأملان الصمت حوله.
ثم لمح ظلًا يتحرك بسرعة، وشعور غريب انتابه.
عبد العزيز، بملامحه الحادة وحضوره الذي يفرض نفسه، وقف أمامه فجأة، عيناه السوداوان تقرأ راكان بلا كلام، حاجباه الكثيفان يشكلان إطارًا للهيبة الطبيعية التي يحمله.
ابتسم عبد العزيز ابتسامة نصف مكتومة، صوته منخفض لكنه محمل بالثقل:
– "بعد سارق ملامحي… جاي لمكاني المفضل؟ تبي تسرق بعد شخصيتي؟"
راكان توقف للحظة، قلبه لا يخفق أسرع من عادته، لكنه شعر بوخز مفاجئ… ليست الخوف، بل اندهاش.
ابتسم ابتسامة قصيرة، غامضة، وقال بصوت هادئ، كما لو كان يهمس للهواء نفسه:
– "أحب هذي الأماكن… بس جيت أعمل شيء."
كانت كلمات بسيطة، لكنها تركت أثرًا في الهواء.
عبد العزيز رمق المكان بعيون واسعة، يتوقع شيئًا مفاجئًا، وفجأة… اختفى راكان أمامه، كما لو ابتلعته الظلال نفسها.
ظل عبد العزيز واقفًا، مذهولًا، يحدق في الفراغ، ثم هز رأسه ببطء، وكأن العقل يرفض تصديق ما حدث.
---
مع حلول المساء، عاد الغموض ليغلف الأكاديمية.
في الساحة الواسعة، حيث ترتفع أعمدة الحجر المكسو بالضباب، ظهر راكان فجأة أمام هيّار وعبد العزيز.
هيّار تجمد في مكانه، عينيه تتسعان بدهشة وغضب مختلط:
– "أنت… كيف طلعت من هنا؟ وكيف تقدر تخرج؟ الأكاديمية ما فيها خروج… إلا بإذن المعلم الكبير!"
راكان ابتسم ابتسامة هادئة، عيناه تتلألأ بالبرود المعتاد، وقال بصوت منخفض كأنها سر:
– "سر المهنة."
على وشك الابتعاد، نادى عبد العزيز بصوت هادئ ودافئ:
– "علي… وين ما بدك، تعال دخن معنا. خلينا نتعرف عليك."
وقف راكان للحظة، تنهد ببطء، ثم هز رأسه:
– "ما عندي شيء… تتعرفوا علي؟ أنا إنسان ما يحب يذكر الماضي، وقوتي ما أحب أحد يعرف عنها."
سكت عبد العزيز وهيّار، والهدوء خيم على المكان.
الدخان ارتفع ببطء، وحيدًا، كصوت منفرد يعبث مع الصمت، والليل أصبح أكثر عمقًا.
راكان ابتعد بخطوات هادئة، سيجارته تتوهج في الضوء الخافت، تاركًا خلفه صمتًا أثقل من أي كلام، والغموض يلتف حوله مثل ضباب الجبال.
---
كانت الشمس قد بدأت تصعد ببطء في السماء، شعاعها الذهبي يتسلل بين أعمدة الأكاديمية، يلمع على حجارة الساحة الكبيرة.
المعلم الكبير وقف في الوسط، بزيه الرسمي، عيناه الثاقبتان تراقبان كل طالب بحزم، بينما الطلاب يقفون في صفوف مرتبة بانتظار التقييم.
رفع المعلم يده، وقال بصوت عميق:
– "سأختار أحدكم الآن… لأعرف مدى قوته."
تقدم راكان بخطوات هادئة، جسمه مشدود، عيناه السوداوان تتأملان الساحة ببرود.
حمل السيف بثقة، وبدأت المعركة.
كانت المواجهة مذهلة.
حتى المعلم، الذي لا يستهان به، وجد صعوبة في مجاراة سرعة راكان ورشاقته.
كل حركة، كل تقاطع للسيف، كان كأنها رقصة دقيقة، متقنة، سريعة جدًا لدرجة أن الجميع بالكاد يستطيع متابعة نظراتهم.
عبد العزيز وقف متجمدًا، فمه مفتوح قليلاً، عينه على راكان لا تفارق حركته:
– "ما هذا… قوته… أسرع من كل شيء رأيته!"
وهيّار أيضًا، عينيه تتلألأ بالدهشة:
– "يا الله… هذا مو طبيعي… حتى المعلم يلاحقه بصعوبة!"
وفجأة، تحولت المعركة من اختبار قوة إلى فوضى غير متوقعة.
سهم طائر اخترق الساحة، متجهًا نحو المعلم الكبير، بسرعة مميتة.
بدون تردد، وقف راكان أمام المعلم، سيفه يلمع في الضوء، وضرب السهم بقوة، محمياً المعلم.
صوت السهم وهو يتحطم على الحديد كان مدوياً، وصدمة كبيرة انتابت الجميع.
عبد العزيز وهيّار وبقية الشلة لم يصدقوا ما حدث، وانطلقوا نحو مصدر السهم لمهاجمة الشرير الذي حاول قتل المعلم.
راكان وقف للحظة، يحدق في الشرير بثبات، ولم يشعر بأي انتباه لنظرات المعلم وبقية الطلاب تجاهه.
همس لنفسه بصوت بارد وغاضب، بدون أن يلاحظ أحد:
– "إذا هذا تابع له… يا له المصيبة… لم أكن أتوقع أن أرى منحوس مثله في أيامي الأولى… كان علي أن أذهب إلى جبل شاهق وأرتاح لنفسي بدل رؤية مختل مثله… هههه… هذا قاسي جدًا."
ثم التفت سريعًا ليلاحظ من حوله، وعيونه اتسعت للحظة، مستوعبًا دهشة كل من حوله.
الصمت خيم على الساحة للحظة، قبل أن ينطلق باقي الطلاب في مطاردة الشرير، وصدى خطواتهم يملأ المكان، بينما راكان يبتسم ابتسامة قصيرة، حاملاً سر قوته في صمت الليل وهدوء نفسه.
---
بعرف الرواية الان ممله بس بعد هذا الفصل راح تنصدواااا باي
Comments