دخلت الأميرة الغابة حين حلّ سكون الليل وغطّت الظلال أرجاء الغابة، كانت السماء صافيةً مرصّعةً ببقعٍ فضية من النجوم تتلألأ كجواهر معلقة في الفراغ. الأشجار كانت شاهقة، جذوعها ضخمة وأوراقها كثيفة، تتشابك الأغصان كشبكةٍ سرية تحرس قلب الغابة. مع كل خطوة تخطوها الأميرة على التراب الرطب، كان صمت الليل يحيط بها برقة، يُسمع بينه حفيف الأوراق الخافت وهمس الريح العابرة، كأن الغابة نفسها تروي لها أسرارها دون أن تُخيفها.
مع أول خطوة وضعتها على التراب الرطب، شعرت ببرودة الأرض تحت قدميها، وأصوات الحصى والأوراق المتساقطة تصدر همساتٍ خافتة، كأن الغابة نفسها تروي قصصها القديمة. كان الهواء مليئاً برائحة الأرض المبتلة والعشب والياسمين البري، عطر يغمر الرئتين ويملأ القلب بالطمأنينة. كل شهيق كان كاتصال مباشر مع روح الغابة، وكل نفسٍ يذكرها بأن الليل يحمل حياة خفية لا تراها إلا العيون التي تنظر بعمق.
النسيم كان رقيقاً، يمر بين الأغصان ويداعب وجهها، يحرك خصلات شعرها برفق، ويجعل عباءتها تتراقص مع الهواء. ومع كل حركة للنسيم، كانت أشعة القمر تتسلل بين الشقوق والفروع، لتلامس جلدها بنعومة، فتشعر بلمسة ضوء باردة وهادئة في الوقت نفسه، كأن القمر نفسه يبارك رحلتها ويغمرها بسحره.
أصوات الطيور الليلية كانت تتعالى بين الحين والآخر، بعضها يغرد بفرح، وبعضها يهمس في الظلام كأنها سر الطبيعة المخبأ. تمايل الأوراق وصوت الريح بينها خلق سيمفونية خفية، موسيقى صامتة يسمعها القلب قبل الأذن، ويشعر بها الروح قبل العقل.
بين الأشجار، ظهرت بقع من الضوء الفضي للقمر تتراقص على الأرض، ترسم أشكالاً غامضة وكأنها دعوات خفية للاستكشاف. الأميرة تمعنت في الظلال، فرأت حيوانات صغيرة تمر بصمت بين الأعشاب، وفراشات ليلية ترفرف بأجنحتها كما لو كانت تحمل أسرار الغابة معها.
جلست على صخرة صغيرة مغطاة بالطحالب، وأغمضت عينيها للحظة، مستمعة إلى أصغر التفاصيل: حفيف الأوراق، همس الريح، صدى الطيور، ورائحة التراب العميقة، ولمسة القمر الفضية على جلدها. شعرت بأن كل شيء حولها ينبض بالحياة، وأن الغابة بأكملها أصبحت صديقها ومرشدها وصديق روحها.
ثم لاحظت نقطة ضوء متلألئة بين الأشجار، قنديل صغير يطفو في الهواء، كدعوة للغابة لتتبع السر الخفي. نهضت بحذر، تتبعه بين الأشجار، وكل خطوة تشعر فيها بأن الأرض نفسها تبتسم لها، وأن كل حجر وكل ورقة تشاركها رحلتها.
الظلام لم يكن مخيفاً بعد الآن، بل صار جميلاً، مليئاً بالألوان الخفية والحياة السرية. الأميرة شعرت بالسلام الداخلي، وكأن الكون كله يحتضنها: الغابة، الطيور، القمر، النجوم، وحتى الهواء نفسه. كل عنصر أصبح جزءاً من روحها، وكل لحظة في الغابة كانت قصيدة حية، تُكتب على صفحة الليل.
جلست الأميرة وفتحت عينيها، والنظر حولها كشف لها سحر الغابة الحقيقي: انعكاس القمر على الأوراق المبللة، تحرك الظلال بين الأشجار، ألوان صغيرة للفطر الليلي، ورائحة التراب الطازج الممتزجة بنسمات النسيم. شعرت أن كل شيء في الغابة حيّ ويتنفس معها، وأن الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل عالم كامل من الجمال والصمت والحياة المخفية.
الغابة التي دخلتها الأميرة لم تكن مجرّد مكانٍ مظلمٍ مكتظّ بالأشجار؛ كانت عالماً قائماً بذاته، يُخفي بين أغصانه أسراراً لا تنكشف إلا لمن يجرؤ على اختراقه. كان الهواء هناك أثقل من هواء القصر، ورائحة الرطوبة تختلط بعبق الأعشاب البرّية، فيملأ صدرها بمزيجٍ من الخوف والدهشة.
كانت كلّ خطوة تُحدث صدى مكتوماً بين الأغصان، وكأنّ الغابة تردّد وقع قدميها في همسٍ خفيّ، لتذكّرها أنها ليست وحدها. عينُ القمر بالكاد تتسلّل من بين أوراق السنديان والبلوط، فتُضيء طريقها المتعرّج ومقاطع جذورٍ ناتئة كالأفاعي.
شعرت الأميرة للحظةٍ أنّ الأشجار تنحني نحوها، تراقبها، تختبر عزمها. وكان قلبها يرتجف، لكنها لم تتوقف. كلّما أرادت العودة، تذكّرت المخطوط الغامض: "درب المرارة لا يُسلك إلا بقلوبٍ لم تعد تحتمل الأقفاص."
مرّت ساعات وهي تسير في عمق الغابة، حتى بدا لها أنّ الليل لا ينتهي. وفجأة، سمعت خرير ماءٍ بعيد، فاتّجهت نحوه. هناك، وجدت جدولاً صغيراً يتلألأ تحت ضوء القمر، فجلست عند ضفافه، تغرف بيديها جرعة ماءٍ بارد، لعلّها تخفّف عطشها وارتجاف قلبها.
لكن ما إن رفعت رأسها حتى رأت على الضفة المقابلة عينين تلمعان في الظلام. تجمّدت في مكانها. كانت عينان صفراوان كاللهيب، تنبضان بحذرٍ وصيدٍ في آن. أطلّ ذئب رماديّ ضخم من بين الأشجار، تقدّم ببطء، وكل خطوة له تحفر صدى في صدرها.
أمسكت طرف عباءتها وكادت تهرب، لكن قدميها كُبّلتا بالذعر. تذكّرت تدريبها على السيف، على الثبات أمام الخوف، رغم أنّها لم تحمل سيفها معها. همست في داخلها:
"الخوف يقتلك قبل أن يقتلك العدو."
اقترب الذئب حتى صار بينهما الجدول فقط. حدّق فيها طويلاً، ثم رفع رأسه إلى القمر وعوى عواءً اخترق سكون الغابة. لحظةً بعدها، تراجع بخطواتٍ بطيئة، واختفى بين الظلال. جلست الأميرة متهالكة على الأرض، تتنفّس كمن عاد من موتٍ مؤجّل، وأدركت أنّ الغابة لا تريد القضاء عليها، بل اختبار صلابتها.
واصلت الأميرة رحلتها في عمق الغابة، والليل يلفّها بسكونه المهيب. كان كل خيط ضوء القمر يتسلل بين الأغصان ليضيء لها الطريق، وتتناثر حولها بقايا الضباب كوشاح فضّي يختلط برائحة التراب الرطب والأعشاب العطرة. مع كل خطوة، كانت تسمع حفيف الأوراق وهمس الريح كأنها تحكي لها حكايات الغابة السرية، عن حيوانات تختبئ في الظلال، وعن أسرار الأشجار القديمة التي شهدت قروناً من الليل والنجوم.
في لحظةٍ شعرت فيها أن الغابة تنفّس معها، توقف قلبها عندما سمعت خرير جدولٍ قريب، ينساب بين الحجارة برقة. اقتربت من الجدول وجلست على حافة حجر مغطى بالطحالب، تسمع صوت المياه كأنها تهدهد روحها، وتستشعر البرودة الخفيفة التي تتسلل إلى أصابعها. فوقها، القمر يعكس ضوءه على سطح الماء، فيظهر كمرآة صغيرة تحمل صوراً متحركة من الظلال والنجوم.
بينما كانت تستجمع قوتها، لاحظت ضوءاً خافتاً يتحرك بين الأشجار. تقدمت ببطء، كل خطوة مدروسة، حتى وجدت كوخاً صغيراً مخفياً بين الأشجار الكثيفة، يخرج منه دخانٌ رقيق ينساب في الهواء ويختلط برائحة الأرض الرطبة والعشب. شعرت الأميرة بالراحة والحذر معاً، وكأن هذا المكان يحمل وعداً بالحكمة لكنه يختبر صبرها أولاً.
طرقت الباب بخفة، ففتح ببطء، وظهرت امرأة مسنّة، عينها سوداء لامعة كقطعتين من العقيق، وظهرها منحني كغصن شجرة جافة. نظرت إليها مليّاً ثم قالت بصوتٍ أجشّ:
"ألم أظن يوماً أن أرى أميرةً تتسلل بين الأشجار في هذا الظلام... ما الذي جاء بكِ إلى هنا، ابنة القصور؟"
أجابت الأميرة بصوت خافت، ممتزج بالخوف والشجاعة:
"جئتُ لأتعلم... لأفهم ما وراء حدود قصوري."
ابتسمت العجوز ابتسامة غامضة، ثم فتحت الباب على مصراعيه وقالت:
"إذاً، الطريق بدأ للتو. الغابة ستعلمكِ أكثر مما تتصورين، وكل خطوة ستكشف لكِ نفسك الحقيقية، لا الصورة التي ربطت بها في القصر."
دخلت الأميرة الكوخ، وإذا به بسيط وهادئ، رفوفه مليئة بالأعشاب الجافة والقوارير الصغيرة، ومن وسطه نارٌ صغيرة ترسل دفئها على الجدران. جلست قرب النار، تمدد الضوء على وجهها، وشعرت بأن قلبها يبدأ في فهم لغة المكان: لغة الصمت، والريح، والماء، والنار، وكل شيء في الغابة له كلامه الخاص.
أخرجت العجوز كوباً من شرابٍ ساخن وقدّمته لها، وقالت:
"اشربي، فمسارك طويل، وكل خطوة فيه اختبار، وكل لحظة ستعلّمك شيئاً عن قوتك وصبرك."
جلسا معاً، والليل ينساب من نوافذ الكوخ الصغيرة، والأميرة تسمع همسات الغابة من بعيد، تتعلم أن الحكمة ليست في الكتب فقط، بل في مراقبة الظلال، في فهم لغة الطيور، وفي الإصغاء إلى صوت الروح التي تهمس داخلها.
Comments