الأميرة الأسيرة في درب المرارة
في مملكة بعيدة، وراء الجبال المكسوّة بالثلوج والأنهار المتجمّدة، وُلدت أميرة صغيرة في قصرٍ عظيم تتلألأ جدرانه بالذهب والفضّة. كان الجميع يظنّ أنّ حياتها ستكون مليئة بالسعادة والبهجة، كيف لا وهي ابنة الملك الوحيد ووريثته الوحيدة؟ غير أنّ القدر كان قد خبّأ لها طريقاً آخر، طريقاً يملؤه الحزن والمرارة.
منذ أيّامها الأولى، لم تعرف هذه الطفلة حضن الأم، فقد رحلت الملكة وهي تضعها في الدنيا، تاركةً وراءها دموعاً لا تجفّ من عيون القصر. كان الملك والدها يحبّها حبّاً شديداً، لكنّه كان مشغولاً بالحروب وحماية العرش، فتركها في رعاية المربّيات والخادمات. كانت الطفلة تنمو جسداً، لكن قلبها يذبل شيئاً فشيئاً من شدّة الوحدة.
كانت تستيقظ في ليالي الشتاء الباردة، تبحث عن صدرٍ يضمّها، عن يدٍ تربّت على كتفها، فلا تجد سوى فراغ الغرفة الكبيرة، وأصوات الريح تعصف بنوافذ القصر. كان الحزن يرافقها كظلٍّ لا يفارقها، حتى ابتسامتها الطفولية لم تكن تدوم طويلاً.
كبرت الأميرة قليلاً، وبدأت تكتشف أنّها مختلفة عن باقي الأطفال. كانت ترى أبناء الخدم يلعبون مع أمّهاتهم في حدائق القصر، يركضون ويضحكون، فيغمرهم الدفء والحنان. أمّا هي فكانت تقف خلف النوافذ الزجاجية، تنظر إليهم بصمتٍ موجع، وكأنّها مسجونة في عالمٍ لا يعرف معنى الحرية ولا دفء العائلة.
لم تكن وحدتها هي الشيء الوحيد الذي عانته؛ فقد دخلت زوجة أبيها إلى حياتها، امرأة قاسية القلب، ترى في الأميرة الصغيرة تهديداً لمكانتها. كانت تعاملها بجفاء، تُلقي عليها كلمات جارحة، وتحمّلها ذنوباً لم ترتكبها. وإذا ما بكت الطفلة شوقاً إلى أمّها، قالت لها ببرود: "الأمّهات لا يعدن من الموت." فتموت الأميرة الصغيرة مرّة أخرى كلّما سمعت تلك الكلمات.
رغم كلّ ذلك، كانت الأميرة تحمل في داخلها قلباً نقيّاً، يرفض أن يتلوّث بالحقد. كانت تبحث عن الأمل في أبسط الأشياء: في زقزقة العصافير التي تزور نافذتها كلّ صباح، وفي ضوء القمر الذي يتسلّل ليلاً إلى غرفتها فيمسح دموعها بصمته. كانت تحدّث النجوم كأنّها أصدقاء أوفياء، وتبوح لهم بأسرارها الصغيرة، عن خوفها ووحدتها وعن حلمها أن تجد يوماً حضناً دافئاً يشبه حضن الأم.
وذات يومٍ، مرضت الطفلة مرضاً شديداً. جلست في سريرها الواسع ترتجف من الحمى، ولم يقترب منها أحد سوى مربّية عجوز كانت تحبّها في سرّها. اقتربت المربّية من سريرها، أمسكت يدها، وقالت لها بصوتٍ مرتجف: "يا صغيرتي، أنتِ أقوى من الألم. يوماً ما ستكبرين، وسيعرف العالم كلّه قصّتك، وسيعلمون أنّك الأميرة التي حوّلها الحزن إلى أسطورة."
كانت تلك الكلمات كالبلسم على قلب الأميرة. ومنذ ذلك الحين، بدأت تحفظ في أعماقها وعداً صامتاً: أن تتحمّل مرارة طفولتها، وأن تجعل من ألمها جناحين تحلّق بهما نحو مستقبلٍ أجمل.
هكذا عاشت الأميرة سنوات طفولتها، بين جدران القصر المزيّنة، لكنّها كانت جدراناً باردة، لا تحمل أيّ دفء. وبين قسوة زوجة الأب، وصمت والدٍ غائب، ووحشة لا تنتهي، كانت الطفلة تصنع عالماً خاصّاً بها من الخيال. عالمٌ تبنيه من قصص النجوم، ومن أحاديث الريح، ومن أحلامها التي لم يستطع أحد أن يسرقها منها.
كانت أميرةً صغيرة، نعم، لكنّها كانت أيضاً أسيرة الحزن. ولم تكن تعلم أنّ تلك الطفولة المكسوّة بالمرارة ستكون هي البذرة التي ستنبت منها امرأة قويّة، لا يقدر الزمان على كسرها.
ففي القصر الكبير، حيث تلمع الجدران بالذهب وتزهو الأروقة بالحرير، كانت وحيدةً بين جدرانٍ باردة. لم يكن البهاء يُدفِئ قلبها، ولم تكن الضحكات المصطنعة تُزيل عنها وطأة الغربة. كلّ يوم كانت تستيقظ على صدى الصمت، وكلّ ليلة تنام على وسادة أثقلتها الدموع.
كانت تشتاق إلى حضن أمّ لم تعرفه، وإلى يدٍ حنونة تمسح على شعرها حين ترتجف من الخوف. لكنّها لم تجد سوى عيون الحرس الصلبة، ووجوه الجواري الجامدة، وكأنّ القدر شاء أن يضعها في عالمٍ لا يفهم فيه أحدٌ معنى أن تكون طفلة.
ومع ذلك، لم تمت في داخلها شرارة الأمل. فقد وجدت في كتب الحكمة التي ورثتها عن جدّها عزاءً خفيًّا. كانت تقرأها في الليالي الطويلة، فتغدو الكلمات جناحين يرفعانها فوق أسوار القصر. هناك، بين الحروف، تعلّمت أنّ الألم ليس قيدًا، بل معبرًا نحو القوّة، وأنّ القلب مهما انكسر يستطيع أن ينهض أقوى.
كبرت الأميرة، وكبر معها وعيها. لم تعد تنظر إلى الحزن كعدوّ، بل كمعلم. علّمها الصبر، وعلّمها أن تبحث عن المعنى وراء كلّ جرح. وحين صارت شابّة، كان في عينيها بريقٌ مختلف؛ بريق امرأة عرفت القسوة، لكنها لم تستسلم لها.
وكان الناس إذا رأوها قالوا: "هذه ليست أميرة القصور فحسب، بل أميرة الصبر، التي صنعت من دمعها نهراً يسقي قلوب الآخرين."
Comments