...في صباح اليوم التالي، أشرقت الشمس بنورها الذهبي على أرجاء المدينة، لتزيح ببطء ظلال الليل وتغمر باريس بأجواء هادئة تنبض بالحياة....
...فتح هنري عينيه بصعوبة، ووضع يده على رأسه يئن من الصداع الحاد الذي خلفته ليلة الشراب....
...همس الكسندر وهو يقترب منه مبتسمًا:...
...— صباح الخير، أيها العاشق البائس....
...ابتسم هنري بتعب وقال:...
...— أشعر بجفاف في فمي، والصداع يأكل رأسي. أقسم لك، لن أشرب مرة أخرى....
...ضحك الكسندر ساخرًا:...
...— سأكون أول من يشهد على كلامك في المرة القادمة....
...لم تمض لحظات حتى طرق باب الغرفة أحد الجنود، فأشار الكسندر له بالدخول....
...دخل الجندي وألقى التحية بكل احترام:...
...— القائد العام يطلب رؤيتك يا سيدي....
...أومأ الكسندر بجدية:...
...— أخبره أنني تلقيت الرسالة وسأكون هناك قريبًا....
...خرج الجندي، واقترب هنري بقلق من صديقه:...
...— لا أراه خيراً ، يا صديقي....
...ابتسم الكسندر بتصميم:...
...— كونك قائدًا أو جنديًا، عليك أن تكون مستعدًا لكل شيء....
...وصل ألكسندر إلى قاعة القائد العام، حيث كان الهواء يعبق برائحة الورق القديم وعبء المسؤولية....
...ألقى التحية بإحترام، ورد القائد بابتسامة متجعدة، قائلاً:...
...— سيد دو نيل، سمعت تقارير عن تجمعات متزايدة للشعب في الحانات والمقاهي ليلاً، يدبرون تمردًا....
...أومأ ألكسندر بجدية:...
...— جوع الشعب المستمر سيدفعهم في النهاية إلى التمرد، سيدي....
...نهض القائد، وهو رجل صارم يُدعى مارشال لوكلير، وقال بصرامة:...
...— تمرد الشعب على الملك هو علامة طغيان بلغ حدّه، ويجب أن نضع حدًا له قبل أن يتوسع شراره....
...أمر قائلاً:...
...— ازرع الجواسيس في كل زاوية من زوايا المدينة....
...التفت ألكسندر إليه قائلاً بثبات:...
...— أمرٌك سيدي....
...خرج ألكسندر من القاعة، والثقل يضغط على صدره كحجر ثقيل، إذ كان يعلم أن هذا الصراع لم يكن سوى بداية لمعركة أكبر وأصعب....
...في أحد أزقة المدينة الضيقة، حيث كانت رائحة الفقر تعبق في الهواء، امتلى المكان بجموع المتسولين والوجوه الشاحبة التي حاصرتها قسوة الجوع....
...كانت إيزابيل تمشي ببطء بين تلك النفوس المتعبة، تراقب أعينها المتعبة واليدين المرتجفتين التي تمددت لطلب قطعة خبز أو قليل من الحنان....
...من بعيد، لاحظت تجمعًا صغيرًا من الناس يتبادلون الحديث بقلق وهمس، فاقتربت بحذر وسألت أحدهم:...
...— ما الذي يحدث هنا؟...
...رفع الرجل وجهه المتعب وقال بصوت متقطع:...
...— ارتفاع أسعار الخبز… سيجلب لنا الهلاك....
...لم نعد نحن الفقراء قادرين على ملء بطوننا....
...إنهم يضيقون علينا سبل العيش، وكأن العالم خُلق للملك والنبلاء وحاشيتهم فقط....
...امتلأ قلب إيزابيل بالألم والحزن، همست لنفسها:...
...— أعان الله هذا الشعب البائس الجائع…...
...ثم أدارت ظهرها، وخطت بخطى متسارعة، والوجع يعتصر قلبها كالسكاكين، تتمنى لو كانت تستطيع أن تفعل أكثر من مجرد الوقوف شاهدة على معاناة من حولها....
...عادت إيزابيل إلى الحانة، فإذا بصوت سيدها يوقفها بحدة:...
...— ما شأنك؟ تأخرتِ كثيرًا اليوم....
...التفتت إليه، وعيناها لا تخفيان دموعًا لم تجف بعد، وقالت بصوت متهدج:...
...— تمشيت بين العامة، ورأيت أشياء مزقت قلبي ودمعت عينيّ....
...ضحك هو بسخرية قاسية:...
...— اهتمي بنفسك، أيتها البائسة، ولا تضعي قلبك على هموم المتمردين. نهايتهم الموت على يد أصحاب السلطة....
...وقفت إيزابيل تهمهم بين نفسها، وكأنها تصرخ بصمت:...
...— قطع الله الترف عن النبلاء، أكلي لحم الفقراء......
...ثم التفتت وعادت إلى عملها، وعلى وجهها تعبير من الإصرار والعناد، كأنها تعاهد نفسها ألا تنكسر مهما كانت الظروف....
...يتراقص ضوء الشموع الخافت على جدران الحانة المتهالكة، مختلطاً برائحة النبيذ الرخيص والدخان الكثيف والخبز المحمص. الطاولات متقاربة، والأحاديث تتداخل كأنه نهر جارف من همسات وضحكات ونقاشات حادة....
...في زاوية مظلمة قرب المدخل، جلس ثلاثة رجال وامرأة حول طاولة خشبية صغيرة. أمامهم أكواب نصف ممتلئة بالنبيذ، ووجوههم تميل نحو بعضهم البعض وهم يخفضون أصواتهم كلما مر أحد بالقرب منهم....
...ضغط جان، الحداد العريض الكتفين، قبضته على الطاولة وقال بغضب:...
..."الملك لا يرى معاناتنا... أطفالنا جائعون ونحن نكدح من الفجر حتى الغروب. لا يمكن أن يأتي التغيير ونحن جالسون ننتظر!"...
...أجاب بيير، الشاب النحيل ذو العينين اللامعتين:...
..."هناك خطة. سنتجمع مع باقي الرجال أمام الباستيل، هذا السجن رمز الظلم. سقوطه سيشعل نار الحرية."...
...نظرت ماري، المرأة الوحيدة بينهم، بحذر وقالت بصوت منخفض:...
..."اخفض صوتك. هناك جواسيس في كل مكان، حتى سقف هذه الحانة له آذان."...
...ابتسم بيير بمرارة، وميل أكثر نحوهم:...
..."إن لم نخاطر الآن، فلن نعيش أحرارًا أبداً."...
...اقتربت إيزابيل منهم وهمست بصوت عذب:...
..."ما طلب سادتي اليوم؟"...
...ردت ماري:...
..."أربع كؤوس من النبيذ، من فضلك."...
...ابتسمت إيزابيل وأخذت الطلب، وفي تلك اللحظة دخل رجل يحمل حقيبة بيده. اقترب من الطاولة التي يجلسون عليها....
...همس جان:...
..."أعرفكم عليه إنه جندي في الجيش الملكي الفرنسي."...
...فزعت ماري:...
..."هل فقدت عقلَك، جان؟"...
...ابتسم الجندي بهدوء:...
..."كوني جنديًا لا يعني أنني نبيل. أنا من عامة الشعب، وكنت أتحمل الضرائب الثقيلة مع عائلتي، وأذقنا الجوع والألم، بينما الملك وعائلته يعيشون في ترف لا مثيل له."...
...قال بيير بسخرية:...
..."يا لسخرية القدر، إن لم يشعر الملك بمعاناة شعبه وجوعه، فهو لا يستحق أن يكون على عرشه."...
...قاطعه الجندي قائلاً:...
..."هناك كثيرون مثلنا يعانون، وهم يجتمعون في أماكن مختلفة. يجب أن نكون حذرين، فالملك وأعوانه زرعوا جواسيس في كل مكان."...
...تنهدت ماري وقالت بحزم:...
..."هذه الحياة القاسية لا تحتمل المزيد. توفير حياة كريمة لا يخصنا فقط، بل عائلاتنا وأطفالنا في المستقبل. علينا أن نصنع فرنسا حرة من الظلم والفقر."...
...تلألأت أعينهم بشرارة الحرية ونبذ الفقر والظلم، واستشعروا معًا أن الفجر الحقيقي على الأبواب....
Comments