الهواء لم يكن صامتًا…
كان يراقب.
جمود جسدها، ارتعاش أطرافها، قبضتها التي تمسّكت بالغصن كأنه آخر خيط للنجاة،
كل ذلك لم يخفَ عليه.
تايهيونغ
أدار نظره عن الرجل الممدد، وتقدم بخطواتٍ هادئة نحوها.
خطوة...
ثم ثانية...
كل خطوة منه كانت تنزع من جومانا أنفاسها.
تقف هناك، غير قادرة على التقدّم أو الهرب.
ليس خوفًا فحسب… بل انبهارًا غريبًا بشيء لا تفسير له.
جسدها اختار البقاء ليتعلّم ما لم يُقال.
اقترب.
وحين صار على بُعد خطوة منها، أمال جسده قليلاً،
حتى صار وجهه أقرب إلى وجهها من أن يُهمل.
عيناها نظرتا إليه بارتباك… لم يكن وجهًا مألوفًا، ولا مريحًا،
لكنه أيضًا لم يكن وحشيًا كما توقّعت.
في الظلال… بدت ملامحه كأنها نُحتت من نَدم قديم.
ابتسم. ابتسامة خافتة
وقال بصوت لا يشبه هذه المدينة:
"ما زال بإمكانك الهرب."
الجملة أشبه بتذكرة خروج من الجحيم.
لكنها… لم تأخذها.
رمشَت، ثم قالت بتلعثمٍ كاد يخنقها:
"لـ… لستُ ذاهبة."
صوتها بالكاد خرج،
لكنه خرج.
"لن أرحل… حتى تتركه."
تايهيونغ لم يرد.
عيونه كانت تنظر إليها كما لو أنها أفسدت معادلة كان يظنها محسومة.
فتاة ترتجف… وتواجهه؟
فتاة لا تعرفه… وتدافع عن شخص لا يستحق؟
فتاة… تتكلّم بصوت منكسر، لكن بكلمات لا تنكسر؟
صمت.
ثم…
انفجار الصوت.
رصاصة اخترقت قلب الليل.
صرخة الهواء كانت أبلغ من أي صراخ.
جومانا شهقت — لا، ابتلعت شهقتها —
وانتفض جسدها في مكانه كغصن تحت صاعقة.
الغصن سقط من يدها، يضرب الأرض دون صوت.
تايهيونغ ترنّح خطوة.
يده أمسكت بكتفه…
نقطة دم ظهرت أولًا، ثم انفجرت كسكين حمراء فوق ملابسه
الطلقة أصابته.
جمود.
كأن العالم بأسره توقف ليحاول فهم ما حدث.
جومانا لم تتحرّك.
كل شيء فيها تجمّد… إلا عينيها،
تتابعان الدم، ثم وجهه، ثم كتفه، ثم تعودان إلى عينيه.
تايهيونغ رفع نظره ببطء إلى مصدر الرصاصة.
الرجل الذي ظنّته جومانا ضحية…
كان يقف الآن على قدميه، يتنفّس بجنون،
وفي يده سلاح صغير يرتجف أكثر منه.
الطلقة ردّ فعل… أو ثأرًا… أو رعبًا تكدّس فجأة.
هو… لم يبدُ عليه الألم.
عيناه تغيّرتا.
فيهما شيء لم يكن موجودًا قبل لحظة.
شيء يُشبه…
الذئب حين يُجرَح.
فجأة…
هدوء الليل تمزّق.
رجال مقنّعون خرجوا من جهتين، كأن الأرض أنجبتهم من العدم.
بوجوه مغطاة، وخطواتهم ثابتة، لا تحمل ترددًا…
كلّ شيء في حركتهم قال:
« هذا ليس تدخّلًا، هذا حكم صدر مسبقًا.»
جومانا شهقت، ارتدّت خطوة للوراء، ثم خطوة أخرى.
لكن اللاوعي قادها إلى الأمام.
دون أن تدرك، اقتربت من تايهيونغ.
رغبة بدائية، عفوية… في الاحتماء.
رغم أنه نفسه، منذ لحظات، كان يبدو هو الخطر الأكبر.
لكنّها اقتربت.
جسدها يبحث عن ظلٍّ آمن، حتى لو كان من نار.
لما شعرت بالبرد أكثر، كانت تريده جدارًا بينها وبين العالم المجهول.
هو لم ينظر إليها أولًا.
يراقب بصمت الرجال المقنّعين وهم ينقضّون على الرجل الآخر — "الضحية" المفترضة.
التقطوه كما يُلتقط شيء سقط في المكان الخطأ.
لا صراخ… لا مقاومة… فقط نظرات.
وبينما هم يجرّونه إلى الظلمة،
استوعبت.
لقد تورطت.
استدارت فجأة، غريزتها تصرخ بالانسحاب، بالهروب.
لم تمضِ خطوة حتى أمسك يدها.
يده الباردة قبضت على ذراعها فجأة،
وسحبها نحوه بقوة، حتى تلامس جسدي، وكأنها قطعة فِرائس التصقت بالمفترس.
قال بصوت منخفض، متعب من النزف… لكن حاد كالسيف:
"أعطيتكِ فرصة واحدة."
أمال رأسه قليلًا، اقترب وجهه من وجهها.
رأت عينيه عن قرب.
عينان واسعتان، بنية ، فيهما تعب، غضب… وشيء يشبه الحزن، لكنه أعمق.
"لكن الأن لن تهربي مني."
شهقت.
حاولت سحب يدها… عبثًا.
دموعها تجمّعت، لا إراديًا، وبدأت تنزلق بصمت.
هزّت رأسها نفيًا، شفتيها ترتعشان:
"أرجوك… أنا… لم أقصد… لم أكن أعلم…"
صوتها خُنق قبل أن يُكمل.
أنفاسها تتلاحق، وقلبها يكاد يفرّ من صدرها.
تايهيونغ أغلق عينيه للحظة، ثم قال بنبرة باردة، خالية من أي عاطفة:
"هيا، أمامي.
بهدوء… أو سيستعملون معكِ العنف."
سكتت.
نظرت إلى الرجال في الخلف،
نظرت إلى الشارع الفارغ،
ثم إليه.
العتمة كانت تضيق، والهواء صار كثيفًا كالغبار في حجرة خانقة.
تردّدت… لكن ساقيها خذلتاها.
خطت خطوة إلى الأمام،
تايهيونغ تبعها،
يده لا تزال تقبض على معصمها كأنها شيء ثمين… أو خطر.
ساروا بها عبر الزقاق المظلم.
خطاها ثقيلة، كما لو كانت تمشي داخل كابوس لم تصحُ منه بعد.
الرجال المقنّعون سبقوهم، أحدهم فتح باب سيارة سوداء فاخرة، زجاجها معتم، والبرد ارتدّ من سطحها كأنها قطعة من جليد مصقول.
تايهيونغ لم ينطق بكلمة.
يده لا تزال تحاصر معصمها… ليست قاسية، لكنها أيضًا لا تسمح بأي مقاومة.
جلست بصمت.
جلست… ولم تستطع حتى أن تسحب الباب.
هو من أغلقه خلفها، ثم دخل من الجهة الأخرى وجلس إلى جوارها.
السيارة بدأت تتحرك، بهدوء، تزحف نحو مصير ما.
داخلها، الصمت كان خانقًا.
غامضًا… كثيفًا… أشبه بقطعة قماش سميكة تغطي فم الزمن.
جومانا تنظر للأسفل، كأنها تخشى حتى النظر إليه.
أناملها تقبض على حافة تنورتها الطويلة ، تشدّ القماش بشدة لتهرب من رعشة يديها.
الدموع تنزل بلا صوت، قطرة تلو الأخرى.
النافذة المرتبّة بجانبها تعكس عينيها… حمراء، متعبة، فيها شيء منكسر.
تنفّسها متقطّع… صدرها لا يعرف كيف يتعامل مع كل هذا الكم من الخوف، والندم، والارتباك.
"ماذا فعلت؟"
"إلى أين آخذوني؟"
"من هذا الرجل؟"
"هل سأموت الليلة؟"
كل هذه الأسئلة تدور في رأسها، تصطدم ببعضها كأمواج صغيرة في كأس ضيق.
كسر الصمت صوته.
صوته منخفضًا، أجشًا، فيه شيء مرهق… لكنه ثابت.
"هل تبكين لأنك خائفة؟ أم لأنك نادمة؟"
الجملة رنت في أذنيها مثل طرق خفيف على جدار حساس في صدرها.
لم ترد.
لا لأنها لا تعرف الجواب…
بل لأنها لو حاولت فتح فمها، ستنفجر بالبكاء، وستنهار.
استدار قليلاً نحوها، نظر إليها من زاويته — عيناها محمرتان، وجهها شاحب.
كانت صورة الهشاشة
لكن في شيء فيها… حتى في بكائها… كان عنيدًا.
رفع حاجبه بخفة وقال، بنبرة لا تحمل سخرية، بل شيء أقرب إلى الاهتمام المتحفظ:
"لو كنتِ أضعف من أن تتحملي تبعات فضولك، لما كان عليك التدخل منذ البداية."
عضّت على شفتها السفلى، وأخفت وجهها أكثر.
صوته قاسيًا… لكنه صادق.
كانت تعرف ذلك.
"لكن لم أستطع… لم أستطع أن أتركه."
كادت تقولها، بصوت مبحوح، لكنها ابتلعتها.
لحظة مرت بصمت…
ثم أضاف، بصوت أكثر هدوء، كأن حدّ السكين بدأ يبهت:
"اسمي… تايهيونغ.
… وأنتِ، من تكونين؟"
-هادئًا.
وكأنه لم يخطفها قبل دقائق فقط.
وكأن الدم الذي يسيل من كتفه لا يعني شيئًا.
… لم تحتمل أكثر.
التفتت نحوه، وعيناها ممتلئتان بالخوف والغضب:
"ما الذي تظنه نفسك؟! تخطفني من الشارع وكأنني حقيبة؟ و الان تعرف بنفسك !"
صوتها لم يكن قويًا… كان مهزوزًا، لكنه واضح.
تصرخ بصوت مكسور، من قلب يفيض.
"حتى أنك تنزف… ولا تبدو مهتمًا! هل تعرف كم هذا مرعب؟!
تتجاهل الرجل الذي كنت تضربه، تتجاهل كل شيء!"
كلماتها خرجت بسرعة، مشوشة، لكنها صادقة
"ماذا لو مت؟! هل فكرت؟!
أنت…انت حتى لا تعرف من أنا»
ثم همست، كأنها تخاطب نفسها:
"أرجوك فقط… دعني أذهب. إذا لم تقتلني أنت، فسيقتلني أبي حين أعود…"
هنا فقط… تحرّك.
"أنا لا أقتل الأبرياء."
نظرت نحوه بحذر، لا تصدّق كلماته بسهولة.
مدّ يده بهدوء، وأخرج منديلاً من جيب معطفه، ثم ناوله لها دون أن يلتقي بعينيها.
قال بصوت منخفض، أقرب للشرود:
"أنا لا أُجيد شرح ما أفعل…
ولا أطلب من أحد أن يفهمني."
نظر إلى الأمام، كأن شيئًا بعيدًا يسحبه:
"لكن هناك أشياء… لو لم تحدث اليوم، كانت ستنفجر غدًا."
ترددت، ثم أخذت المنديل من يده بأصابع مرتجفة.
مسحت دموعها،
لاحظ كيف كانت ترتجف بشدة وهي تفعل.
تنفّس ببطء… ثم قال بصوت أخف:
"لن أؤذيك."
نظرت إليه نظرة طويلة… تائهة.
وصمت.
هو أيضًا صمت للحظة، ثم أدار رأسه نحوها، وسأل:
"من تكونين".
يُحدّق فيها كما لو كانت لغزًا.
"لماذا تدخلتي في لحظة لا تخصك؟"
" الآن… لا يمكنك المغادرة بسهولة."
لم تجب.
ظلّ يحدّق بها هو الآخر، ينتظر اسمًا… تعريفًا… شيئًا.
" اسمي جومانا "
وساد صمت.
لكن هذه المرة، لم يكن مُرعبًا…
كان هشًا، ومتقلبًا،
كأن الهواء بينهما صار فجأة أكثر دفئًا… رغم الخوف.
______________♡________________
الفصل الثاني ✓
✨ إلى قرّائي الأحبّاء✨
شكرًا لأنكم عبرتم معي تفاصيل الفصل الثاني…🪐🌷
كل لحظة، كل ارتعاشة، وكل كلمة كُتبت كانت تحمل شيئًا منّي إليكم🫣🎊
قد لا يكون الطريق واضحًا بعد،
لكن بعض الطرق لا تُكشف إلا حين نضيع فيها فعلًا… 👽
ابقوا قريبين… فالقادم سيهزّ القلوب أكثر.
دمتم الضوء في ظلّ قصتي 🌷😭
باااااي🖐🏻✨
Comments