كانت الليلة الثالثة هادئة بشكلٍ غير معتاد، كأنّ المدينة نفسها تنتظر شيئًا. جلس هارو وهانا على السور المعتاد، دفء الضوء الخافت يتراقص فوق وجهيهما، وبين أيديهما الكتاب الغامض، وقد بدأا أخيرًا يفتحان أولى صفحاته، بترقّبٍ يُشبه التوق لرسالةٍ من عالمٍ آخر.
قالت هانا وهي تُقلّب الصفحة الأولى:
"انظر... الكتاب مُقسّم إلى فصول."
قرأ هارو العنوان بصوتٍ منخفض:
"فصل أول: ظلُّ الفتى الأخرس."
تبادلا النظرات، ثم بدأت السطور تروي:
---
**في قرية نائية لا يزورها القمر، عاش فتى لا يتكلّم. لم يكن أخرسًا بخلقة، بل نذر صمته للعالم، بعد أن اختفى أخوه ذات ليلة ولم يعُد.
كان الفتى يرى أخاه في الظلّ، لا في النور. كلّما أشرقت الشمس اختفى، وكلّما حلّ الليل، انعكست ملامحه على جدران الغرف، على الماء، على الزجاج.
لكنّ أحدًا لم يصدّقه.
في كلّ يوم، كان يرسم شكلًا جديدًا لذلك الظلّ، في دفترٍ أسود أخفاه تحت بلاطة في غرفته.
حتى أتى ذلك اليوم، حين رسم شكلاً لا يُشبه أخاه، بل يُشبه نفسه، لكن بلا وجه.
وفي الصفحة المقابلة، كتب شيئًا واحدًا:
"حين تعرف الفرق بين ظلّك وظلّ من تُحب، تبدأ الرحلة."
ثم اختفى الفتى. لم يبقَ سوى الدفتر، والظلّ الأخير.**
---
أغلقت هانا الصفحة ببطء، ثم نظرت إلى هارو بعينين شبه مرتجفتين:
"إنها قصة غريبة... لكنّ فيها شيئًا يجذبني."
قال هارو وهو يخرج دفترًا صغيرًا من حقيبته:
"اللغز يبدو غير مباشر... علينا تحليله على مراحل."
بدأ يرسم على الورق أشكالًا حاولوا استنتاجها من القصة: ظلالًا، شخصيات بلا ملامح، وخطوطًا متقاطعة.
قالت هانا:
"القصة تكرّرت فيها كلمة (الظلّ) كثيرًا... والفتى كان يرسم شيئًا كل يوم... لعلّ الرسوم هي المفتاح؟"
أشار هارو إلى السطر الأخير من القصة:
"حين تعرف الفرق بين ظلّك وظلّ من تُحب...
هذا يعني وجود تشابه، لكنّ ثمّة فرق صغير... ربّما علينا المقارنة؟"
قلّبا الصفحات التالية، فوجدا رموزًا هندسية معقّدة، بعضها دوائر داخل دوائر، وبعضها أشكال ثلاثية الأضلاع.
وفي أسفل إحدى الصفحات، كُتب:
> "من يُجيد الملاحظة، سيرى أن الظلّ لا يُحاكي كلّ حركة."
قالت هانا:
"هذه جملة غريبة... دعنا نرسم الرموز ونرى إن كان ثمة أمر غير منطقي."
قضيا قرابة الساعة يرسمان، يقارنان، يخطّطان خطوطًا وهميّة بين الرموز.
قال هارو وهو يُشير إلى أحد الأشكال:
"هذا الشكل يتكرّر أكثر من مرّة، ولكنّه يختلف في زاوية صغيرة فقط... قد يكون هذا هو عنوان الكتاب التالي؟"
فتحت هانا تطبيق البوصلة في هاتفها، وبدأت تربط بين الزوايا، ثم قالت:
"يمكننا تحديد الاتجاه... فلنرَ إن كان هناك مكانٌ حقيقي يُطابق شكل هذه الرسمة."
تبعًا للخطوط، بدا الشكل قريبًا من حيّ خلف مدرستهم القديمة، مكانٍ مهجور قليل الحركة.
وقفا في منتصف الطريق، والهواء الليلي بدأ يشتدّ برودة.
قالت هانا بابتسامةٍ خفيفة، يخالطها بعض الخوف والفضول:
"هل نذهب؟"
ردّ هارو دون تردّد:
"لا رجوع بعد الآن... هيا بنا."
سارا معًا، أضواء الشوارع تتراقص فوق ظلالهما، حتى وصلا إلى زقاق ضيّق خلف أحد المباني القديمة.
وهناك، تحت مقعد خشبيّ متهالك، وُجد كتاب آخر، بلون داكن أكثر من الأول، كأنّ الظلّ ذاته قد التهمه.
رفعه هارو ببطء، ونظر إلى هانا.
قالت بصوتٍ هادئ:
"تلك كانت أول خيوط اللغز... ولا يزال أمامنا طريقٌ طويل."
نظر كلاهما إلى الكتاب الجديد، وعيناهما تلمعان في ظلام المدينة.
"وفي ظلال الليل… لا أحد يعرف أيّ الأسرار تُكتَب، وأيّ الأرواح تُستَدرَج."
نهاية الفصل الثالث
Comments