الفصل الثاني: حينَ تهمسُ الصفحات

كان الليل قد بدأ يلفّ المدينة بلطف، حين خرج هارو من بيته كعادته، دون هدفٍ محدد. لم يكن في باله اللقاء، ولا الانتظار، بل فقط الحاجة لأن يمشي... ليشعر بأنّه ما زال حيًّا.

السماء كانت متلوّنة بلونٍ بنفسجي باهت، والهواء ينساب ببرودةٍ خفيفة، كأنّه يمرّده من الداخل. لا أحد في الشارع، لا صوت سوى خرير الريح بين الأشجار.

اقترب من السور المعتاد، لم يكن هناك أحد بعد، فجلس عليه بصمت، يُحدّق في الطريق البعيد، يفكر... لا بشيء على وجه التحديد، بل بكلّ شيء، دفعة واحدة.

أخرج هاتفه وتصفحه بلا تركيز، مرّت الدقائق ببطء.

حتى سمع خطواتٍ خفيفة تقطع السكون.

التفت.

كانت هانا تمشي بخطوات هادئة، تُخفض رأسها قليلًا، وتلفّ جسدها بسترتها الداكنة. وقفت أمامه للحظة، ثم جلست بجواره دون أن تنظر إليه.

قال بهدوء: "لم أكن متأكدًا إن كنتِ ستأتين."

رفعت رأسها قليلًا، وابتسمت ابتسامةً قصيرة، خافتة، ثم همست: "أنا أيضًا لم أكن متأكدة."

ظلّا صامتين برهة، ثم قالت: "هل تثق بشخص بالكاد تعرفه؟"

نظر إليها، ثم تنفّس ببطء وقال: "أحيانًا... الغرباء هم أكثر من نفهمهم. لأننا لا نضطر لادّعاء شيء أمامهم."

أومأت برأسها، ثم أخرجت من حقيبتها الصغيرة دفترًا أنيقًا، مغطّى بالجلد الأسود، ومدّته إليه.

"هذا دفتري... أكتب فيه أشياء لا أقولها."

تناوله منها بلطف، وبدأ يتصفح. الصفحات الأولى كانت مليئة برسوم للقمر، بأشكالٍ مختلفة، وبعضها كأنّه يذوب، أو يختفي، أو يبتسم.

ثم وجد كلمات مكتوبة بخطّ يدها:

> "كلّما ازدادت الأشياء جمالًا، ازداد الخوف من فقدانها."

"ليس كل من اختار العزلة، يكره الناس... بعضهم فقط أُرهق."

"القمر لا يطلب اهتمام أحد، ومع ذلك، نرفع أعيننا إليه في كل ليلة."

نظر إليها وقال: "هذا... عميق. وكأنكِ ترسمين مشاعرك لا أفكارك."

ردّت: "أخاف أن أتكلم... فيرحل من يسمعني. لهذا أكتب، على الأقل، الأوراق لا ترحل."

سكت قليلًا، ثم قال: "أحيانًا أشعر أنني لا أنتمي لأي مكان. أعيش وحدي تقريبًا. والداي يعملان في الخارج منذ سنوات... لا يزوراني كثيرًا، فقط رسائل."

قالت وهي تحدّق في الطريق: "وأنا أعيش مع جدتي... الناس من حولي يظنّون أنني غريبة الأطوار، لكنني فقط... لا أريد أن أكون بينهم."

توقّف قليلًا، ثم مدّ يده وناولها دفترها: "أعتقد أنّكِ أوضح مما تظنين، فقط لا أحد يحاول الفهم."

قالت وهي تضعه في حقيبتها: "وربما لا أريدهم أن يفهموا."

ابتسم، ثم نهضا معًا ليتمشّوا في الطريق الطويل الممتد على جانب الحديقة.

أثناء المشي، بدأت تحكي له عن طفولتها: "كنت أخاف من الأصوات العالية... وما زلت. لذلك أحبّ الليل. حتى صراخه ناعم."

قال هو، وهو ينظر إلى الأشجار: "كنت دائمًا في الخلف، في كل شيء. لا أتقدم في الصف، لا أشارك في النقاشات، لا أحتفل بشيء."

ضحكت بخفّة، وقالت: "كأنك تصفني."

أضافت بعد لحظة: "حتى في المدرسة... لم يكن لي أصدقاء. فقط الكتب. والسماء."

قال: "أنا لم أحبّ الدراسة أبدًا، لكنّي أحب المراقبة... أراقب الناس، أفكارهم، حركاتهم، لا أعرف لماذا."

ظلّا يمشون ويتحدثون، حتى لاحظ هارو شيئًا صغيرًا بين الشجيرات.

"ما هذا؟" قال وهو ينحني ليلتقطه.

كان كتابًا صغيرًا مغطّى بالتراب، يبدو قديماً، وغلافه ممزق من الحواف. فتحاه معًا.

في الداخل... جمل مبعثرة، رسومات هندسية، رموز، وأسطر بلا ترتيب، كأنّه دفتر ملاحظات كتبه شخصٌ مستعجل، أو خائف:

> "١٢-N بعد منتصف الليل"

"من يجد الطريق، عليه أن يغمض عينيه أولًا."

"الظل الذي لا ظلّ له، هو البداية."

نظرا إلى بعضهما بدهشة.

قالت هانا، وعيناها تلمعان قليلًا:

"ربما... هذه مغامرتنا."

أغلق هارو الكتاب، وابتسم: "فلنرَ إلى أين يقودنا هذا."

سارا في صمت، تحت ضوء القمر، والمدينة من حولهما، كأنها تستمع إلى خطوات البداية...

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon