دخلنا القاعة مع رنين الجرس، الذي بدا هذه المرة حادًا أكثر من المعتاد. جلسنا في أماكننا المعتادة: أنا قرب النافذة، شهد خلفي، أريج على يميني، وندى في الزاوية المقابلة.
أخرجت دفتري، لكنني لم أفتح الصفحة. أصابعي كانت تتلاعب بالقلم دون وعي، بينما عيناي تسرحان عبر زجاج النافذة، تراقبان الأشجار البعيدة تهتز مع نسيم الصباح.
دخل الأستاذ، ومعه ملفات كثيرة تحت ذراعه. كان صوته جادًا، نبرته تحمل شيئًا من الحسم:
"اليوم… سنكمل الحديث عن التوجيه الدراسي. كل واحدة منكن يجب أن تكون جاهزة لتحديد مسارها قريبًا. لا مجال للتردد."
همسات خافتة سرت بيننا. التفتُّ نحو أريج، وجدتها تعض شفتها السفلى بتوتر. شهد كانت تحدق في الطاولة وكأنها تحاول الهروب بعينيها. حتى ندى، التي طالما بدت واثقة، كانت تشد أطراف قميصها المدرسي بعصبية.
فتح الأستاذ دفتر الحضور، ثم قال بلهجة أكثر هدوءًا:
"أعرف أن القرار صعب. أعرف أن بعضكن يشعر أن المستقبل ضبابي… لكن هذه هي الحياة. إن لم تختاري، ستختار الحياة عنك."
توقفت يده للحظة، ثم رفع رأسه ونظر إلينا جميعًا:
"تخيلوا أنكم على قطار يسير بسرعة. لا ينتظر أحدًا. كل محطة فرصة. كل لحظة تأخير قد تعني أن القطار سيفوتكم."
صمتنا. لم تكن مجرد كلمات. كانت حقيقة شعرنا جميعًا أنها تطبق على صدورنا.
خلال الحصة، بدأ الأستاذ يوزع أوراقًا فيها أسئلة موجهة:
"ما طموحكِ؟ ما قدراتكِ؟ أين ترين نفسك بعد خمس سنوات؟"
قرأت الأسئلة، وشيء في داخلي انقبض.
"أين أرى نفسي؟"
كأن الإجابة كانت تائهة في مكان بعيد لا أستطيع الوصول إليه.
رفعت رأسي، التفتُّ إلى شهد، وجدتها تحدق في الورقة بعينين دامعتين. لم تتكلم. فقط نظرة تقول كل شيء: الخوف، الحيرة، والقلق من أن تختار طريقًا لا يناسبها.
أريج كتبت شيئًا بسرعة، ثم مسحته، ثم كتبته مجددًا. كل حرف تكتبه كان معركة مع نفسها.
ندى كانت تكتب ببطء، كأن كل كلمة تُقتلع من قلبها.
أما أنا، أمسكت القلم، وكتبت كلمة واحدة فقط:
"أبحث."
عندما انتهت الحصة، طلب منا الأستاذ أن نترك الأوراق على مكتبه قبل الخروج. مشينا نحو الباب بخطى ثقيلة، وكأن كل ورقة وضعناها كانت جزءًا من أرواحنا تركناه هناك.
في الممر، نظرت إلى صديقاتي وقلت بصوت بالكاد سمعته:
"كأننا في سباق مع الوقت… ومع أنفسنا."
أريج أجابت، وهي تشد حقيبتها على كتفها:
"والخوف الأكبر… أن نصل ولا نجد أنفسنا في المكان الذي حلمنا به."
مضينا سويًا نحو الساحة، نغالب شعورًا بالهوان ونتوه في متهات غير منتهية، بينما كانت أصوات الحصص التالية تتعالى من الأقسام، معلنة عن بداية يوم آخر… وزمن آخر .
جلستُ مع شهد وأريج وندى تحت شجرة التين العتيقة في ساحة المدرسة الخلفية. كانت أوراقها تتساقط ببطء كأنها تشاركنا الحيرة. لم نكن نضحك كما كنا نفعل في الاستراحات السابقة، لم نتحدث عن الطعام أو المدرسات أو الحصص المملة. هذه المرة، الحديث كان مختلفًا… ثقيلًا كأننا نحمل على أكتافنا أكثر من مجرد حقائب مدرسية.
ندى كانت أول من تكلم:
"أنا تعبت. كل يوم أسمع رأي مختلف… من أمي، من أخي، من الأستاذة. لكن لا احد فيهم يعرف كيف اشعر من ذاخل."
أريج كانت تنظر إلى التراب، ترسم بأصبعها دائرة صغيرة، وقالت:
"أحيانًا أحس إن اختياراتنا ما تخصنا، كأننا نمثل دور في مسرحية محددة مسبقًا."
شهد التفتت إلينا بنظرة حازمة رغم ارتباكها:
"لو نكمل هكذا، راح نتعب أكثر. لازم نوقف مع بعض. نفكر، نراجع، و… حتى لو غلطنا، نغلط واحنا متأكدات إن القرار قرارنا."
نظرت إليهنّ، وبصوت منخفض قلت:
"تعالوا نعمل عهد بينّا… مو عهد طفولي. عهد حقيقي."
سكتن.
"نتعاهد إننا نساعد بعض في التوجيه. نفكر سوا. ما نضحّي بأحلامنا عشان نرضي أحد. ونكمل… حتى لو خفنا."
مددت يدي في وسط الدائرة، أريج وضعت يدها فوق يدي، ثم ندى، ثم شهد.
لحظة صامتة. دافئة رغم الخوف. كأنها عقد صدق بين أربع فتيات يقفن على مفترق العمر.
لكن اللحظة لم تكتمل.
صوت صافرة طويلة انطلق من جهة الإدارة. التفت الجميع.
ثم خرجت المشرفة بسرعة من باب المكتب، تنادي باسمٍ واحد بصوت مرتفع ومفاجئ:
"ندى!"
تجمدت ندى مكانها. نظرت إلينا مرتبكة، ثم وقفت بتردد.
"أنا؟" سألت.
"إيه، تعالي حالًا. المدير يبغاك."
لم تسأل. فقط مشت.
كأن الزمن توقف للحظة. نظرنا أنا وشهد وأريج لبعضنا. لم نفهم، لم نتوقع، ولم نجد تفسيرًا.
كل ما كان في بالي حين رأيت ندى تبتعد بخطى بطيئة، هو سؤال واحد:
هل هناك شيء نجهله؟
عاد التوتر يغلف اليوم… من جديد.
Comments