لفصل الخامس – الشيء الذي يحمل اسمي:
الباب انفتح ببطء، وصريره اخترق عظامي. وراءه… كان الظلام حيًا.
دخلت. لا بإرادتي. كأنني سُحبت، أو دُعيت، أو… خُلقت لهذا.
المكان لم يكن كهفًا. كان غرفة… أو معبدًا قديمًا. جدرانه من عظم، وسقفه ينبض كقلب عملاق. وفي وسطه… مرآة.
لكنها لم تعكسني. رأيت فيها فتي… يشبهني. لكنها كانت تبتسم، بينما عيوني كانت تبكي.
مدت يدها من خلف الزجاج، ولمسته. فبرد الزجاج صار دفئًا، وانفتح بيننا الممر.
خرجت.
نعم، هي خرجت من المرآة.
ونظرت لي وقالت: "أنا أنت… لو لم تهرب."
صوتها كان صوتي. خطواتها مثل خطواتي. لكن عيونها… ما كانت لي.
"ماذا تريدين؟" سألت.
فقالت بهدوء: "أخذ مكاني… كما أخذت أنت حياتي."
ثم تحوّل جسدها إلى ظل… والتفّ حولي كالدخان.
صرت أختنق. جسدي يبرد.
وآخر ما رأيته… كان الجبل، من بعيد، يحترق.
لكن لا أحد شاهده. لأن الجبل لا يظهر لمن لم يسمع اسمه الحقيقي.
وانا… اسمي لم يكن علي فقط. كان شيء آخر. شيء نسيتُه، وعاد الآن ليأخذني.
--
الفصل السادس – يدس من تحت الأرض:
استيقظت هذه المرة داخل حفرة. يدي كانت مربوطة بحبل خشن، والطين يغطي نصف جسدي. فوقي سماء غير مألوفة… بلا نجوم.
جبل أحمر اختفى، لكن رائحته ما تزال في الهواء… تلك الرائحة التي تشبه دمًا قديمًا، وتاريخًا مدفونًا.
سمعت صوت فحيح… حفرت يدي في الطين، ووجدت إصبعًا بشريًا. جاف… مقطوع… وكأنه خرج الآن من حلم ميت.
ثم ظهرت "هو". التي خرجت من المرآة. لكن الآن كانت مختلفة. كانت أطول. نحيلة. تتكلّم بصوتي… لكنها تسير كأنها لا تنتمي للعالم.
قالت: "جاء وقت التبادل. أنتِ تعيشين هنا… وأنا هناك."
ضحكت. ضحكتي. لكنها لم تكن سعيدة.
فجأة، الجدار الطيني خلفي انشقّ. وخرجت منه يد.
يد بلون العظام، بلا جلد، بأصابع طويلة… تبحث.
وبدأت تسحبني.
صرخت، لكن صوتي كان يُسحب أولًا. كأن الحفرة تبتلع وجودي، قطعةً… قطعة.
ثم تذكرت. هذا ليس أول مرة. لقد حصل هذا سابقًا. لكني نسيت… لأن النسيان جزء من الصفقة.
اليد أمسكتني. وسمعت الهمس يعود:
"علي… مشيّناكي، والحين دورنا."
وغُمر وجهي بالطين. لكن عينيّ… كانتا مفتوحتين.
وآخر ما رأيته، هو الجبل… يعيدني إليه.
الفصل الثامن – وادي العظام:
عبرت.
سقطت في مكان مختلف. أرضه بيضاء… ليست ثلج، بل عظام. جبال صغيرة من جماجم وأضلاع، وكل شيء يصدر صريرًا مع خطواتي.
كل شيء صامت… إلا أنفاسي، وهي ترتد مثل الصدى.
فجأة، تكسرت جمجمة تحت قدمي. وخرج منها دخان أسود… أخذ شكل إنسان بلا وجه.
قال بصوتين متداخلين: "أخيرًا… وصلت. لكن الوصول لا يعني النجاة."
تراجعت. لكن لم يكن هناك مفر.
تابع الكيان: "من يدخل هذا الوادي، عليه أن يترك شيئًا… أو يُترك."
قلت بصوت مرتجف: "أنا ما عندي شيء أتركه."
ردَّ: "بل عندك. ذكراك… عن التي فُقدت. عن أختك."
تجمدت عيناي. كيف عرف؟ كيف نبش ذلك السر المدفون؟
"هل ترغب أن تعرف أين هي؟"
همست: "نعم."
قال: "ادفن اسمك بين العظام، وخذ الحقيقة."
نظرت إلى الأرض… إلى كل تلك الجماجم. ثم نظرت إلى يدي، إلى اسمي الذي كنت أحمله في صدري…
وببطء، بدأت أحفر.
وكتبت اسمي. ودفنته.
ثم ارتجف الوادي… وانشقت الأرض… وخرج منها صوتٌ يعرفني… ويبكيني.
"علي.....انقذني"
-
الفصل التاسع – صورة في الدخان:
كان الصوت يردد اسمي. لكن لم يكن صوتًا بشريًا… ولا حتى شيطانيًا. كان صوتًا يتكون من ألف همسة، كأن أرواحًا كثيرة تناديني في لحظة واحدة.
"علي… أنقذني."
نظرت إلى الأرض التي انشقت. خرج منها دخان كثيف، لكنه لم يتصاعد للأعلى… بل راح يلتف حولي كدوامة.
وفجأة… ظهر شيء داخل الدخان. صورة.
وجه.
كانت هي.
أختي.
بعيون مملوءة دموعًا، وشعر متشابك، وصوت يشبه الحنين. مدت يدها من وسط الدخان… لكنها لم تكن تصل.
قالت: "هم أخذوني… أخذوا اسمي، وخبأوه. لكي أعود، عليكِ أن تستعيديه."
صرخت: "وين؟ كيف؟"
قالت: "وراء الجدار الحي… في قلب الجبل."
اختفت الصورة. والدخان انسحب كأن شيئًا سحبه فجأة.
وظهر طريق… محفوف بجماجم تنظر لي. كل واحدة تهمس باسمي… وتضحك.
فهمت حينها. أن ما بدأته، لن ينتهي بسهولة.
وأن استعادة أختي… تعني الدخول إلى عمق الجبل.
حيث لا أحد يعود كما كان
الفصل العاشر – الجبل من الداخل:
دخلت الطريق. الجماجم حولي صمتت فجأة، وكأنها اكتفت بالسخرية. وكلما تقدّمت، أصبح الضوء خلفي أقل… حتى ابتلعني الظلام.
لكن الجبل… لم يكن صامتًا.
كان يتنفس. كل خطوة أسمع معها صوتًا يشبه القلب… ينبض في الصخور. الجدران تنزّ بلون أحمر قاتم، يشبه الدم لكنه ليس كذلك.
وصلت إلى قاعة واسعة. في وسطها، منصة حجرية… وفوقها شيء مغطى بقماش أسود.
اقتربت.
رفعته.
كان مرآة. لكن لم أكن أرى نفسي.
بل رأيت أختي، مربوطة بسلاسل حجرية، في مكان يشبه هذا… تبكي وتنظر إلي.
وراءها، كائن يقف بلا وجه… يملك ألف يد… وكل يد تحمل قناع.
قال صوت في رأسي: "اسمه: حارس الأسماء. من أراد استرجاع اسم، يجب أن يهزمه. لكن لا تنسي… كل قناع هو كذبة. واختيار الخطأ… يقتلك."
ظهر أمامي ستة أقنعة على الجدار. واحد منها فقط يعيد لي أختي… والبقية، تؤدي بي إلى الجنون.
وقفت… أتنفس ببطء. أفكّر.
أي قناع يحمل الحقيقة؟
المرآة بدأت تشتعل. الوقت يمر.
الحادي عشر – القناع الذي يبكي:
وقفت أمام الأقنعة الستة. كل واحد منها منقوش بتفاصيل مرعبة… وجه يصرخ، وآخر يضحك، وآخر مغطى بالرماد.
لكن هناك واحد فقط… كان يبكي. دموعه تنزل حقيقية، كأنها دم.
اقتربت منه، ومددت يدي. وقبل أن ألمسه، صرخت الجدران.
"كاذب!" "خدعة!" "اختاري الضحك!" "اختاري الصمت!"
كل الأصوات حولي بدأت تتحول إلى أشباح تطوف حولي. كل واحد منهم يلبس قناعًا مختلفًا، ويحاول أن يدفعني نحوه.
لكن شيئًا بداخلي قال لي: "الذي يبكي، هو من يعرف الألم. هو من تذوّق الفقدان. هو الأقرب لكِ."
لمست القناع.
وانفتح الجدار.
وانهار كل شيء.
سقطت من عالٍ جدًا… إلى بحر من السواد. لكن لم يكن بحرًا… كانت ذكريات. ذكرياتي، وذكريات أختي، مختلطة، تطفو من حولي.
ثم رأيتها. مقيدة، لكنها تبتسم. قالت: "عرفتِني. وهذا يكفي لأعود."
لكن خلفها… الكائن ذو الألف يد بدأ يصرخ. أحسست أن كل شيء سيتحول إلى رماد.
فمددت يدي… وصرخت باسمها.
"ارجعي!"
نور انفجر. كل شيء اختفى.
فتحت عيني. كنت وحدي.
لكن اسمها كان محفورًا على الأرض. عاد.
أعدته.
لكن… أين هي؟
الفصل الثاني عشر – الاسم لا يكفي:
كنت أظن أن استعادة الاسم يعني استعادتها. لكن الأرض حولي لا تزال صامتة… والهواء مشبع بالصدى.
لم يظهر شيء. لا يد، لا وجه، لا همسة.
اقتربت من النقش الحجري الذي يحمل اسمها. للحظة… شعرت أن اسمي بدأ يختفي.
نظرت حولي. الأحرف تتلاشى من ذاكرتي. اسمي، وجه أمي، حتى صوتي بدا غريبًا.
سمعت همسة: "من يعيد اسمًا… يخسر شيئًا مقابله."
فهمت.
أنا دفعت الثمن.
صرخت بصوت مكسور: "أنا لم أكن أعرف… أنا ما كنت أريد إلا أختي."
ظهر كائن جديد. لم يكن له شكل محدد. كان كالظل… يمشي كإنسان… وصوته يشبه صوتي.
قال: "أنت الآن جزء من الجبل. إن أردت الخروج… عليكِ أن تختار:
أحدكما يعود. أنت… أو هي."
وقفت بلا حراك. أشعر بالدم ينسحب من عروقي. قلبي ثقيل.
هل هذا هو الاختيار؟ بعد كل شيء… عليّ أن أختار من يبقى؟
الجبل ينتظر.
وقفت بلا حراك. أشعر بالدم ينسحب من عروقي. قلبي ثقيل.
لكنني عرفت الجواب.
أغلقت عيني… وتقدّمت خطوة واحدة إلى الخلف.
سمعت صرخة. لكنها لم تكن صرخة ألم. كانت ولادة.
نور أحاط بالجبل. ثم… ساد الصمت.
…
في قرية صغيرة أسفل الجبل، استيقظت فتاة. جسدها يرتجف. لكن اسمه على لسانها.
قالت: "علي… أين أنت؟"
لكن الريح لم ترد.
فقط عانقته برفق… كما لو أن الجبل نفسه يبكي.
____________________نهايه______________________
Comments