-أغمضتُ عيني للحظة، ظننت أن ما سمعته كان مجرد وهمٍ صنعه عقلي بسبب الظلام… لكن لا، كان الصوت قريبًا جدًا، دافئًا لدرجة شعرت بحرارة أنفاسه تلامس أذني. التفتُّ ببطء، والبرد يزحف في أطرافي… لا أحد.
الممر كان فارغًا. الصور على الجدران ما زالت تحدق بي، لكن العيون فيها بدت أكثر وضوحًا، وكأن ملامحها تتشكل من جديد.
بدأت خطواتي تتردد على أرضية خشبية متهالكة، كل خطوة تُصدر صريرًا خافتًا، كأن البيت يتألم من وطئي. كان صوت الرياح يتسرب من النوافذ المكسورة، لكن بين صفير الريح… سمعت نبضات قلب. لم تكن نبضاتي.
اقتربتُ من سلم العلية، نظرتُ إلى الأعلى… الباب كان مفتوحًا بالكامل الآن، والظلام خلفه عميق لدرجة بدا وكأنه يبتلع الضوء القليل المتسرب من القمر.
مددتُ قدمي على أول درجة، والهواء تغيّر فجأة… أصبح أثقل، وكأن رئتيّ تملؤهما طبقة من الغبار. عند الدرجة الخامسة، شعرتُ أن الأرض تحت قدمي ليست صلبة… بل وكأن شيئًا يتحرك تحت الخشب.
ثم جاء الصوت… ضحكة خافتة، أنثوية، لكنها مكسورة، وكأنها تأتي من حنجرة صدئة.
توقفت.
ـ "من هناك؟"
لم يجب أحد… لكن الدرج العلوي صرخ تحت وزن شخص ما. شيء يتحرك فوقي. شيء ينتظرني.
تقدمتُ، وكل خطوة كانت قرارًا خاطئًا في داخلي، لكن شيئًا ما كان يدفعني… شعور غريب، خليط بين الخوف والرغبة في المعرفة.
وصلتُ إلى العلية، وقبل أن أدخل، لاحظت أن الظلام ليس طبيعيًا… كان سائلًا تقريبًا، كثيفًا كالدخان، يلتف حول المدخل ويمنع الرؤية.
خطوتُ خطوة واحدة، و… انغلق الباب خلفي بعنف.
كنت الآن في العلية. رائحة العفن والدم القديم تملأ المكان. الأرضية مغطاة بأقمشة بيضاء بالية، لكن ما تحتها لم يكن مجرد أثاث… رأيت بوضوح أطراف أصابع تخرج من تحت القماش، شاحبة، مجعدة، وكأنها جثة بقيت لسنوات.
سمعتُ خطوات خلفي… التفتُّ بسرعة، لم يكن هناك أحد.
ثم سمعتُ نفس الهمسة الأولى، لكن هذه المرة قريبة جدًا من وجهي:
"لقد انتظرناك طويلًا… نور."
ارتجفتُ. لم أخبر أحد باسمي. لم يكن يجب أن يعرفه أي أحد هنا.
بدأت الأقمشة على الأرض تتحرك، وكأن الجثث تحتها تستيقظ. أصوات أنين وبكاء وصرخات مكتومة ملأت المكان.
ركضت نحو الباب لأفتحه… لكنه لم يتحرك، وكأنه ملتصق بالجدار.
ثم، من زاوية الغرفة، ظهر شيء… لم يكن إنسانًا بالكامل. كان طويلًا، ممدود الأطراف، جلده مشدود على عظامه، وعيناه سوداوان بالكامل، لكن ابتسامته… كانت ممتدة بشكل غير طبيعي، حتى منتصف وجهه.
تقدّم نحوي ببطء، خطواته صامتة تمامًا، بينما الأرضية حوله تصدر أصوات طقطقة وكأنها تتشقق من حضوره.
رفع يده، وفي راحة كفه كان هناك مفتاح صغير، صدئ، لكنه يلمع في الظلام.
قال بصوت عميق، متعدد الطبقات، كأنه أكثر من شخص يتحدث في نفس الوقت:
"إذا خرجتِ… لن تكوني أنتِ."
مدّ المفتاح نحوي، لكن فجأة، الأقمشة على الأرض تطايرت، والجثث بدأت تزحف نحوي، أذرعها تمتد، أصابعها الطويلة تخدش الأرض وهي تحاول الإمساك بي.
صرخت، أمسكت المفتاح، ودون تفكير أدخلته في قفل الباب… لكنه لم يفتح، بل أطلق صرخة حادة جعلت أذني تنزف دمًا دافئًا.
الكيان الطويل بدأ يقترب، ابتسامته تتسع حتى تمزق خديه، ومن خلفه، الظلام بدأ يتمدد نحوي بسرعة.
لم يكن أمامي إلا خيار واحد… القفز من نافذة العلية.
كسرت الزجاج بكتفي، شعرت بألم حاد، لكني لم أتوقف. سقطت من الطابق العلوي على أرض الحديقة الخلفية… لكن قبل أن ألتقط أنفاسي، سمعت صوت الباب الخلفي للمنزل يُفتح ببطء خلفي.
التفتُّ… كان الكيان واقفًا هناك، لكنه لم يخرج. فقط أشار إليّ، وقال:
"أنتِ الآن… منّا."
عندها لاحظت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي…
يدي التي أمسكت المفتاح قبل قليل لم تعد يدي، بل صارت شاحبة، بأصابع طويلة تشبه أصابع الجثث التي رأيتها.
والمنزل… كان يبتسم.
---
Comments