رائحة القرار
كانت رائحة الألوان الزيتية تختلط بالقهوة الباردة على الطاولة الخشبية، كأن المكان كله يعكس فوضاه الداخلية.
جلس “آدم” أمام لوحته صامتًا، يحدّق في الخطوط التي رسمها منذ ساعات، لكنها بدت له غريبة... بلا معنى، بلا ملامح.
كأن الوجوه التي يرسمها فقدت هويتها، تمامًا كما فقد هو القدرة على تمييزها.
تحركت أنامله ببطء، مرّر الفرشاة على اللوحة، ثم توقّف.
لم يعد يعرف إن كانت تلك ابتسامة أم حزنًا مرسومًا، هو فقط يرى ظلالًا... مزيجًا من الضوء والضباب.
ذلك المرض الذي خطف منه أبسط التفاصيل — ملامح البشر — جعله يعيش داخل عالم بلا وجوه.
لكنه ظلّ يرسمها، ربما بحثًا عن وجهٍ واحدٍ لا يستطيع نسيانه.
أدار رأسه نحو النافذة، كانت باريس تمطر كعادتها، والسماء رمادية تشبه أيامه الأخيرة.
منذ شهور وهو يشعر أن المدينة التي عشقها لم تعد تحتويه.
كل شيء صار باهتًا... المقاهي، الألوان، اللوحات، حتى صوته حين يتحدث لنفسه صار غريبًا عنه.
سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم همس وكأنه يكلّم أحدًا غائبًا:
"يمكن أرجع... يمكن هناك ألاقي نفسي اللي ضاعت بين الزحمة دي."
على مكتبه، كانت رسالة إلكترونية مفتوحة منذ أيام، من صحيفة مصرية تعرض عليه إقامة معرض خاص للوحاتِه.
لم يكن يهتم بالعروض بعد مرضه، لكنه هذه المرة شعر بشيء مختلف...
شعور خفيف، أشبه بنداء بعيد يأتي من وطنٍ تركه منذ سنوات طويلة.
قام من مكانه، أطفأ السيجارة، وبدأ يجمع أدواته ببطء.
لم يكن القرار سهلًا، لكنه لم يعد يحتمل الفراغ الذي يسكنه.
نظراته سقطت على لوحةٍ غير مكتملة، وجهٌ أنثوي غامض الملامح،
لكن رغم الغموض، كانت الرائحة...
تلك الرائحة التي التصقت بأنفاسه يومًا، حاضرة.
همس بخفوتٍ، وكأنها أمامه:
"يمكن تكوني السبب... يمكن عطرك هو اللي ناداني أرجع."
في تلك اللحظة، دوّى صوت المطر على زجاج النافذة بقوة، وكأن السماء توافقه على القرار.
اقترب من الحقيبة الجلدية القديمة، ألقى فيها بعض الملابس دون اهتمامٍ بالألوان أو الترتيب،
ثم توقف عند لوحة صغيرة معلّقة بجانب السرير — لوحة لبحرٍ هادئٍ يلامسه غروبٌ برتقالي.
كان هذا المشهد آخر ما رسمه قبل أن يفقد ملامح العالم من حوله.
مدّ يده ولمس أطراف اللوحة، شعر بخشونة الألوان تحت أصابعه،
ثم أغمض عينيه كمن يحاول أن يتذكر... أن يتشبث بصورة لم تعد موجودة.
هو لا يتذكر الوجوه، لكن بعض التفاصيل لا تغيب:
رائحة المطر حين كانت تضحك، دفء أنفاسها حين كانت تقرأ له شيئًا لا يفهمه إلا منها.
كل هذا عاد فجأة، دون اسمٍ أو ملامح، فقط رائحة واحدة قادرة على إحياء ما مات بداخله.
تنهد ببطء، ثم قال كمن يحدّث الغياب:
"أنا راجع... يمكن هناك ألاقي الجواب."
أطفأ الأنوار، ترك المرسم في عتمته المعتادة،
وخرج إلى الشارع الباريسي الذي غسله المطر.
خطواته كانت هادئة لكنها تحمل يقينًا جديدًا...
يقين بأن الرحلة إلى مصر لن تكون مجرد عودة للوطن،
بل بداية لشيء لم يكن في الحسبان — لقاء، قدر، أو ربما حبّ سيغيّر ملامح حياته إلى الأبد.
وفي مكانٍ آخر، بعيدًا عنه بآلاف الكيلومترات،
كانت “حياة” تقف أمام نافذتها في القاهرة، تحمل فنجان القهوة وتكتب عنوان مقالها الجديد.
لم تكن تعلم أن الحروف التي تكتبها الآن،
ستقودها قريبًا إلى أكثر قصةٍ غرابةً وصدقًا عرفتها في حياتها...
قصة تبدأ برجلٍ لا يرى الوجوه، لكنه سيتعرف عليها من عطرها.
دا اول فصل ل عطركِ هويتي اتمني التفاعل
Comments