الفصل الثالث
حلّ الفجر ببطء، وغمرت أشعة الشمس الأولى بيوت القرية الطينية بلون ذهبي هادئ. كان الجميع مستيقظين على غير عادتهم؛ أصوات الأمهات تهمس بالدعاء، وصغار يراقبون بفضول الرجال المتجمعين عند ساحة القرية.
سعيد كان هناك، يحمل على كتفه كيسًا صغيرًا فيه خبز وماء وبعض الأدوات البسيطة. قلبه يخفق كطبول الحرب، لكنه حاول أن يخفي ارتباكه. كل العيون كانت تلاحقه، بين ساخر مثل عصام، ومترقب مثل ليلى، ومتأمل مثل الحاج فؤاد.
قال الحاج بصوت ثابت:
"اليوم لن يكون سهلاً. الطريق إلى أعالي النهر وعر، ومن لم يُسلّم قلبه للصبر والعزم فليرجع الآن."
لم يتحرك أحد، وإن بدا الخوف واضحًا على الوجوه. تقدم الحاج ببطء، وأشار إلى الشبان الأربعة الذين وقع عليهم الاختيار: سعيد، عصام، ليلى، ورجل آخر يُدعى جابر، قوي البنية معروف بجرأته.
تحركوا جميعًا وسط صمت ثقيل، بينما نساء القرية يراقبنهم بقلوب مشدودة. كانت خطوات سعيد ثقيلة، كأن الأرض تمسك قدميه لتعيده، لكنه أجبر نفسه على المضي قدمًا.
---
مع الساعات الأولى من السير، بدأت معالم القرية تختفي وراءهم، وظهرت أمامهم غابات صغيرة تمتد حتى سفوح الجبال. كانت أصوات العصافير تملأ الجو، لكن خلف هذا الجمال كان هناك شعور خفي بالخطر.
قال جابر وهو يشق الطريق بعصاه:
"علينا أن نبقى متيقظين. الذئاب تقترب من هذه المناطق، خصوصًا في موسم الجفاف."
ابتلع سعيد ريقه بصعوبة. الذئاب كانت دائمًا هاجسه منذ الطفولة، قصص سمعها عن رجال هاجمتهم قطعانهم جعلت قلبه يضطرب كلما فكر بهم. حاول أن يركز على السير، لكنه كان ينظر يمينًا ويسارًا كل بضع لحظات.
عصام، كعادته، لم يترك الفرصة ليمر دون سخرية:
"انظروا إلى سعيد، وجهه شاحب كمن رأى الموت بعينيه. ربما سنحمله على أكتافنا إذا أغمي عليه."
اشتعلت ضحكة قصيرة من عصام، لكن ليلى ردت بسرعة:
"على الأقل سعيد هنا، لم يهرب كما هرب غيره. أما أنت، فالأيام ستُظهر حقيقتك."
ساد الصمت بعدها. سعيد شعر بشيء من الامتنان، لكنه في داخله كان يتساءل: هل سأثبت حقًا؟ أم سأخذلها كما أخذلت نفسي من قبل؟
---
مع منتصف النهار، وصلوا إلى منطقة صخرية مرتفعة، حيث كان عليهم عبور جسر خشبي قديم يربط بين ضفتي وادٍ ضيق. الجسر بدا مهترئًا، تتدلى بعض ألواحه وكأنه على وشك الانهيار.
قال جابر وهو يتفحصه:
"سنمر واحدًا تلو الآخر. لا تتوقفوا في المنتصف، ولا تنظروا للأسفل."
تقدم جابر أولاً بخطوات ثابتة، ثم تبعته ليلى. عندما جاء دور سعيد، تجمد في مكانه للحظة. الريح تعصف من أسفل الوادي، وصوت الخشب المتهالك زاد من رعبه.
سمع صوت عصام خلفه يقول ساخرًا:
"تحرك يا بطل. لا تجعلنا ننتظرك حتى الغروب."
أغمض سعيد عينيه لحظة، ثم بدأ يتحرك بخطوات مترددة. كل خطوة كانت كالسير على حد سيف. شعر بالعرق ينساب من جبينه، وركبتيه ترتجفان. فجأة، انكسر أحد الألواح تحت قدمه، فأطلق صرخة قصيرة وتمسك بالحبال الجانبية.
صرخت ليلى من الجهة الأخرى:
"تمالك نفسك! لا تنظر للأسفل، واصل السير!"
أخذ سعيد نفسًا عميقًا، جمع ما تبقى من شجاعته، وأجبر قدميه على الحركة. لحظة وصوله إلى الضفة الأخرى، سقط على الأرض لاهثًا، لكن في داخله شعر بوميض غريب: لقد واجه خوفه، ولو بشكل صغير.
---
مع حلول المساء، أقاموا مخيمًا صغيرًا عند سفح جبل قريب من منبع النهر. أشعلوا النار، وجلسوا حولها يتناولون ما تبقى من الخبز والماء.
قال جابر وهو يراقب اللهب:
"غدًا سنكون أقرب إلى الحقيقة. إن كان هناك سدّ طبيعي أو انهيار صخري، فسنجده. لكن إن كان السبب أكبر… فقد نحتاج إلى قوة لم نتخيلها."
نظر سعيد إلى النار، ورأى فيها صورة حلمه القديم: ألسنة تلتهم القرية. لكنه تذكر أيضًا الجسر الذي عبره قبل ساعات. ربما كانت الشجاعة تبدأ بخطوة واحدة، ولو ارتجفت قدماه أثناءها.
ليلى ابتسمت له وهمست:
"أنت بخير اليوم. كنت تظن أنك ستسقط، لكنك وصلت. هذه هي البداية فقط."
كلماتها جعلت صدره يدفأ. لأول مرة منذ زمن، لم يشعر سعيد أنه مجرد ظل للآخرين. صحيح أنه ما زال خائفًا، لكنه صار يعلم أن الخوف ليس نهاية الطريق، بل جزء منه.
وبينما النجوم ملأت السماء، أغفى سعيد بجانب النار، وقلبه يخفق لا من الرعب هذه المرة، بل من انتظار الغد وما يحمله من أسرار.
---
Comments