القسم الثاني صاخب. كل زاوية فيه تصرخ بالألوان الصارخة والضحكات المبالغ فيها، وكأن المدينة تحاول إخفاء فراغها الداخلي بصخب مبالغ فيه. فارس استيقظ على هذا الضجيج، لكنه شعر بفراغ عميق بداخله، كأن جزءًا من روحه مفقود في مكان آخر. قلبه يدق ببطء، لكنه شعر أن صوته الداخلي صار أعلى من كل الضوضاء.
الصندوق الصغير الذي يحتفظ به فارس على رفّه يحمل أشياء غامضة: دمعة مجففة، صورة ممزقة، وقصاصة مكتوب عليها: "هل أنا بخير؟"… كل هذه الأشياء كأنها رسائل من شخص لم يعد موجودًا. عند لمسها، شعرت يده ببرودة غريبة، وكأن الصندوق يحاول أن يهمس له سرًّا لا يريد العالم أن يعرفه.
في الليل، حين يسكن الضجيج، يرى فارس ظلًا يتحرك على الجدران، يمرّ سريعًا مثل خيال ملاحق. يأتيه صوت خافت، مشوش:
> "الحزن ليس خطأك، لكن العالم لا يريدك أن تشعر به."
كل همسة من الظل تجعله أقرب إلى الحقيقة، وأقرب إلى الألم الذي حاول دفنه. المدينة تراقب كل شعور، لكنها لا تستطيع أن تمنع من يريد أن يتذكر. فارس يقف في منتصف الغرفة، يحاول أن يتماسك، لكن شيئًا بداخله ينهار مع كل حركة للظل على الجدار.
فجأة، صمت مطبق يملأ المكان، وكأن المدينة نفسها تحبس أنفاسها. فارس يغمض عينيه لحظة، وعندما يفتحها يجد نفسه في مكان مختلف، نفس الغرفة ولكنها باهتة، والجدران عليها بقع سوداء كالحبر. الأصوات التي كانت تأتي من الشارع اختفت، وصوت خطوات خافتة يرن في المكان، خطوات تشبه خطوات طفل صغير.
ويمض شعور بالخوف يتسرب له من أصابع قدميه حتى رأسه، وكل شيء حوله يبدأ بالاهتزاز قليلاً. فجأة، يرى انعكاسًا لنفسه في مرآة مكسورة صغيرة. الانعكاس يبتسم بطريقة لم يفهمها، كأنها دعوة لاكتشاف شيء أكبر، شيء مظلم ينتظره خلف كل زاوية.
عيناه تشتد، والمشهد ينكسر أمامه. هو الآن واقف في نفس الغرفة، لكنه صغير، طفل يركض في ممر ضيق، يسمع صرخاته تتردد كصدى: "فارس!" لكن هذا الصدى ليس صوته، إنما صوت ظل يشبهه تمامًا. كل حركة ترفع درجة الضغط النفسي، وكل ظل يهمس باسمه بطريقة لم يعتد سماعها.
فارس يحاول العودة للواقع، لكنه يجد نفسه يغرق في ذكريات غامضة: ضحكات الأطفال، صرخات خافتة، أبواب تُغلق بعنف. كل وميض من الذكريات يهمس باسمه ويدفعه للبحث عن شيء منسي، شيء يخفيه الزمن عن الجميع. كل زاوية من الغرفة تحمل لغزًا، وكل ظل يخبئ مفتاحًا لماضٍ مظلم لم يفهمه بعد.
عند محاولة لمس الصندوق مجددًا، تشعر يده ببرودة أشد، وكأن كل شيء داخل الصندوق يصرخ بصمت. الدمعة المجففة تتحرك قليلاً، كأنها تتنفس، الصورة الممزقة تهتز، والقصاصة تلمع في ضوء ضعيف ينبعث من الظلال. فارس يصرخ، لكنه لا يسمع صوته… كل شيء حوله صامت إلا الذكريات التي تتسلل إليه بلا رحمة.
وفي اللحظة الأخيرة، يسمع طرقات قوية على الباب… مع كل طرقة، يرجع للحاضر لحظة، ثم يسقط للذكرى مرة أخرى. كأن الزمن يجرّه بالقوة، يوريه أسرار المدينة التي حاولت طوال الوقت أن تخفيها، أسرار كل من عاش في هذا القسم قبل أن تصبح المدينة ما هي عليه اليوم.
الفصل ينتهي بلحظة مشوقة: فارس يحدق في مرآة مكسورة صغيرة، الانعكاس يبتسم بطريقة غامضة، والمدينة حوله صامتة، تنتظر تحركه التالي. كل شيء بدا وكأن رحلة أعمق، أظلم، وأكثر إثارة بدأت للتو…
Comments