المقهى

الفصل الخامس: المقهى

هذه ليست سيرة، ولا رواية عن شخص بعينه.

إنها مجرد عناوين لحياةٍ بلا اسم، عابرة مثل ظل، وقريبة مثل نفس.

كل عنوان فصل، وكل فصل لحظة، واللحظات هي ما يصنع وجودنا.

دخل المقهى كمن يبحث عن مأوى أكثر من بحثه عن قهوة. الباب الخشبي انفتح بصوت خافت، ورائحة البن المحمّص امتزجت برائحة المطر الذي ما زال يقطر من معطفه. كان المكان شبه ممتلئ، لكن الطاولات لم تكن مزدحمة بما يكفي لتفقده عزلته. جلس في زاوية قريبة من النافذة، حيث يستطيع أن يرى الخارج والداخل في وقت واحد.

الزجاج المغبّش بالندى جعل المشهد خارجًا يبدو كلوحة قديمة: المارة يتحركون بخطوات متسارعة،傘 بألوان باهتة، وقطرات ماء ترسم خطوطًا متقطعة على السطح الزجاجي. أما الداخل فكان عالماً آخر: موسيقى هادئة بالكاد تُسمع، ضحكات متقطعة من طاولة بعيدة، ورجل يقرأ صحيفة بتأمل بارد.

طلب فنجان قهوة سوداء. حين وضع النادل الفنجان أمامه، نظر طويلًا إلى سطح السائل الداكن. لم يكن مجرد شراب، بل مرآة صغيرة تلتقط انعكاس الضوء والظل. ابتسم في نفسه: حتى القهوة يمكن أن تكون عنوانًا لحياة كاملة، مرة مثل الخسارات، وساخنة مثل اللحظات التي لا تحتمل الانتظار.

بدأ يراقب الطاولات من حوله. عند المدخل، شابان يتحدثان بسرعة، أيديهما تتحرك كأنهما يرسمان الحكاية في الهواء. في الوسط، امرأة وحيدة تقلب صفحات كتاب ببطء، وعيناها تبتعدان عن الكلمات أكثر مما تقتربان. وفي الزاوية الأخرى، رجل عجوز يكتب شيئًا على ورقة صغيرة، يتوقف كل لحظة ليتأمل، ثم يعود ليخط كلمة أخرى.

شعر أن المقهى كله مجرد مسرح صامت، وأن كل شخص فيه يلعب دوره بلا إدراك منه. تساءل: هل يراقبه أحد بدوره؟ هل هو أيضًا جزء من هذا العرض، جالس هناك في الظل، يدوّن الملاحظات على الآخرين؟

رفع فنجانه، ارتشف رشفة صغيرة. الطعم كان قويًا، لاذعًا بعض الشيء. ذكره بأحاديث لم يقلها يومًا، برسائل لم يرسلها، وبعناوين كان يخشى أن يفتحها. لعل المقهى ليس مكانًا للراحة فحسب، بل مكانًا لتذكير الإنسان بما يؤجله.

من النافذة، لمح طفلاً يركض خلف كرة صغيرة، بينما أمه تصرخ محاولة إعادته. الكرة ارتطمت بالزجاج قربه، تركت أثرًا دائريًا من الماء، ثم تدحرجت بعيدًا. ابتسم للحظة: حتى الأطفال خارج المقهى يكتبون قصصًا قصيرة من دون أن يعرفوا.

عاد ينظر إلى الداخل. المرأة الوحيدة أغلقت كتابها، وأخرجت ورقة من حقيبتها. العجوز أنهى جملته الأخيرة ووضع قلمه جانبًا. الشابان نهضا سريعًا، وكأن الحوار لم يكتمل لكنه لن يكتمل أبدًا. المشهد كله تغيّر في دقائق قليلة، وكأن المقهى يتنفس، يغيّر ملامحه مع كل حركة، مع كل رشفة قهوة.

تأمل فنجانه مرة أخرى. بقي فيه نصف السائل، مظلمًا مثل ليل لم يكتمل. فكر أن حياته ربما تشبه هذا الفنجان: ممتلئة بما يكفي لتشعر بوزنها، فارغة بما يكفي لتنتظر الامتلاء من جديد.

كتب في دفتر صغير كان يحمله:

"المقهى ليس مكانًا، إنه مرآة. كل شخص يجلس فيه يرى نفسه من خلال الآخرين."

أعاد القلم إلى جيبه، أغلق الدفتر، وأخذ آخر رشفة من فنجانه. لم يكن بحاجة إلى كلمات أخرى. شعر أن المقهى منحه عنوانًا جديدًا، حتى وإن كان لا يعرف إن كان سيعود إليه مرة أخرى.

وقف بهدوء، ارتدى معطفه، وفتح الباب نحو المطر. ضجيج الشارع استقبله كأنه عالم آخر، لكنه كان يعرف أن جزءًا منه بقي هناك، في الزاوية القريبة من النافذة، يراقب الداخل والخارج إلى الأبد.

انتهى الفصل الخامس

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon