جناحٌ مكسورٌ يتعلّم الطيران
وُلدت أميرةٌ في قصرٍ من ذهب، لكنّ حياتها كانت قفصًا من صمت.
لم تتعلّم مع الأطفال في ردهات القصر، ولم تركض خلف فراشات الحديقة،
بل بقيت كزهرةٍ حُبست في زجاجةٍ شفّافة: تراهم جميعًا، ولا يراها أحد.
كان أقرانها يملؤون الساحات ضحكًا،
يتلقّون العلم كطيورٍ تتعلّم الطيران،
أمّا هي، فبقيت جناحًا مكسورًا،
لا يعرف من السماء إلّا لونها من خلف النافذة.
لكنّها لم تُحرَم من العلم،
فقد خُصِّص لها مُعلّمٌ بارع، واسع المعرفة،
يُعلّمها ما تشاء، ويكشف لها أبوابًا من الحكمة في كلّ فنّ.
وكان قلبها يفرح بذلك، فهي تحبّ التعلّم،
وتغرق في بحور المعرفة كمن يغوص في لؤلؤٍ لا ينتهي.
غير أنّ الحزن لم يكن في علمها، بل في وحدتها.
فالعلم بلا صديقٍ يُشاركه، يشبه مرآةً بلا انعكاس.
لم يكن هناك من يُنصت لحيرتها،
ولا من يبادلها رأيًا حين يعجز عقلها عن فهم مسألةٍ ما.
ولم تذق لذّة التجربة مع الآخرين،
ولا غنى لها عن نظرات العيون الأخرى وأفكار العقول المختلفة،
لتتذوّق المعنى الحقيقي للمعرفة،
وتغرس جذورها في عمق الفَهم.
لم يزرها أبٌ يُلقي عليها ظلّ الأمان،
ولا أمٌّ تُشعل في قلبها دفءَ الحنان.
تركتها الأيّامُ يتيمةً وهي في حضن الملوك،
فتعلّمت أنّ الوحدة قد تسكن القصور كما تسكن الخرائب.
لكنّ قلبها ظلّ يشبه نبعًا صغيرًا تحت صخرة،
مختبئًا، صابرًا، ينتظر لحظةً تنشقّ فيها الأرض،
كي يسقي حياتها بعالمٍ لم تعرفه بعد.
جلست الأميرةُ في قاعةٍ عالية السقف، جدرانها مرصّعة بالفسيفساء الملوّنة، كأنّها مكتبة من نور.
كان المعلّمُ شيخًا وقورًا، في عينيه بريقُ التجارب، وفي صوته نبرةُ بحرٍ يعرف أسرار الموج.
بدأ يعلّمها الحسابَ كما يعلّم النحلةَ أن تجمع الرحيق، فيحوّل الأعدادَ إلى لحنٍ يتناغم كأوتار العود.
ثمّ يفتح لها أبواب اللغة، فتشعر أنّ الكلماتِ طيورٌ بيضاء، تطير بين يديها، تُحلّق بها إلى عوالم لم تطأها قدمٌ.
كان يُخبرها:
"العِلم يا أميرتي ليس جدرانًا تحفظينها، بل نوافذُ تفتح لكِ على الوجود.
كل سؤالٍ تطرحينَهُ، هو مفتاحٌ جديد، وكلّ حيرةٍ تعانينها، هي دليلٌ أنّك على طريق الحكمة."
فتُصغي الأميرة بعيونٍ لامعة، تسجّل في قلبها قبل أوراقها.
وكانت أحيانًا تقاطعه بخجل:
"يا معلّمي، لماذا السماء واسعة هكذا؟
ولماذا قلوبُ البشر تضيق بما فيها؟"
فيبتسم الشيخ، ويقول:
"لأنّ السماء تتّسع بكلّ ما يُلقى فيها،
أمّا القلوب، فهي لا تتّسع إلّا بما تُروى به من حبٍّ وصدق."
فتشعر الأميرة أنّ كل كلمة منه قطرةٌ تسقي عطشها،
وأنّها، رغم وحدتها، لم تعد سجينةَ قصرٍ من صمت،
بل مسافرةٌ في رحلةٍ لا تنتهي، رحلة العلم والدهشة.
و مع مرور الأيام، لم تَعُد الدروس عند الأميرةِ أرقامًا وحروفًا فحسب، بل صارت أبوابًا تُشرِفُ منها على الكون.
كانت تُفتَنُ بكل فكرةٍ جديدة، وتغرق في كل إجابةٍ كما يغرق العطشان في نبعٍ بارد.
لكن شيئًا ما بقي يؤلم قلبها:
فكل سؤالٍ كانت تسأله، يلقى جوابًا من الحكيم، غير أنّها لم تجد يومًا من يُجادلها فيه أو يشاركها حيرتها.
كان عقلها كحديقةٍ تُزهِرُ بالأفكار، لكن بلا طائرٍ يهبط فيها ولا صديقٍ يقطف ثمرةً منها.
وذات مساءٍ، بعد أن أنهت درسها وجلست قرب النافذة، كتبت في دفترها الصغير:
"إنّني أملك كلّ الأجوبة، لكنّ قلبي ما زال وحيدًا…
العِلم مرآةٌ صافية، لكنّها لا تعكس صورتي إلّا لي وحدي."
شعرت عندها أنّ الأسئلة الكبرى في حياتها، تلك التي لم يُجِب عنها المعلّم، لا تحتاج إلى عِلمٍ فقط، بل إلى روحٍ أخرى تُصغي، إلى عينٍ أخرى ترى ما ترى.
ومن هنا، بدأت رحلةُ الأميرة في البحث عن صدى لصوتها، عن قلبٍ يشاركها دهشتها.
•حوارٌ بين قلبٍ عطشان وحكمةٍ جارية•
الأميرة : يا معلّمي، لماذا خُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا؟
المعلّم: لكي يعرف أنّ قوّته ليست في جسده، بل في قلبه وروحه. فالضعف بابٌ إلى التواضع، ومن التواضع يُولَد الفهم.
الأميرة: ولماذا يموت الناس إذا كانوا يحبّون الحياة؟
المعلّم: لأنّ الموت ليس نهايةً للحياة، بل بابٌ إلى حياةٍ أخرى. لو كان الإنسانُ مخلّدًا، لما قدّر كل لحظةٍ يعيشها، ولما تعلّم أن يجعل أيّامه ثمينة.
الأميرة: يا معلّمي، لِماذا السماء واسعةٌ هكذا، أمّا قلوبُ البشر فضيّقة؟
المعلّم: السماء تتّسع لكلّ ما يُلقى فيها، أمّا القلوب فلا تتّسع إلّا بما تُروى به من حبٍّ وصدق. حين يسقي القلبُ نفسه بالأنانيّة، يضيق، وحين يسقيه بالرحمة، يتّسع حتى يصير سماءً أخرى.
الأميرة : لِماذا نَبحث عن الحبّ إذا كان يُسبّب لنا الألم؟
المعلّم: لأنّ الحبّ مثل النور؛ قد يُعمي العينَ أحيانًا من شدّته، لكنّه وحده ما يجعلنا نرى. الألمُ الذي يُرافق الحبّ هو الضريبة التي ندفعها كي نعرف قيمة قلوبنا.
الأميرة: ولماذا هناك ظلمٌ في العالم، إذا كان الله عادلًا؟
المعلّم: الظلم ليس من الله، بل من اختيارات البشر. الله أعطى الإنسان الحرّية، والحرّية تعني إمكان الخير كما تعني إمكان الشرّ. من دون الظلم، ما كان للعدل أن يُدرَك، ومن دون الظلام ما كان للنور أن يُقدَّر.
الأميرة: يا معلّمي، ما معنى السعادة؟ وهل هي موجودة حقًّا؟
المعلّم: السعادة ليست مكانًا تصلين إليه، بل لحظاتٍ صغيرة تعيشينها. هي في ضحكةٍ صادقة، في كلمةِ صدق، في قلبٍ مطمئنّ. من يبحث عن السعادة في الخارج يضلّ، ومن يغرسها في داخله يجدها في كلّ مكان.
الأميرة : ولماذا نشعر بالوحدة حتى ونحن محاطون بالناس؟
المعلم : لأنّ الوحدة ليست فراغ المكان، بل فراغ الروح. قد تجلسين في قصرٍ مليءٍ بالوجوه وتشعرين وحيدة، وقد تجلسين مع إنسانٍ واحدٍ فتشعرين أنّ الدنيا كلّها بجانبك.
الأميرة : يا معلّمي، ما هو أجمل ما يملكه الإنسان؟
المعلم : أجمل ما يملكه الإنسان هو قلبٌ يعرف أن يُحبّ، وعقلٌ يعرف أن يسأل، وروحٌ تعرف أن تبحث.
الأميرة : ومتى يعرف الإنسان أنّه قد تعلّم حقًّا؟
المعلم : حين يكتشف أنّه ما زال يجهل الكثير. المعرفة بحر، وكلّما غصنا فيه، رأينا أنّ الشاطئ أبعد ممّا كنّا نظنّ.
الأميرة : يا معلّمي، لماذا يمضي الزمن ولا يعود؟ أليسَ العدل أن يُمنح الإنسان فرصةً ثانية ليُصلح ما فات؟
المعلم : يا صغيرتي، لو عاد الزمن لما تعلّم أحد. إنّ مرورَه بلا رجعةٍ هو ما يجعلنا نغتنم اللحظة. العدل ليس في رجوع الماضي، بل في أنّ المستقبل ما زال صفحةً بيضاء تنتظر قلمك.
الأميرة: ولماذا يا معلّمي، حين نملك ما نشتهي لا نشعر بالسعادة الكاملة؟
المعلم : لأنّ السعادة ليست فيما نملك، بل فيما نستطيع أن نعطيه. القلب يضيق حين يُكدّس الأشياء، لكنّه يتّسع حين يوزّعها.
الأميرة : ولماذا يولد الإنسان وحده ويموت وحده؟ أما كان أجمل لو لم يذق الوحدة أبدًا؟
المعلم : يا أميرتي، الوحدة ليست عقابًا بل مرآة. فيها نكتشف مَن نحن بلا زينة ولا أقنعة. ولو لم يذقها الإنسان، ما عرف قيمة الصحبة الصادقة حين تأتي.
الأميرة : يا معلّمي، ما الحبّ؟ أهو هديةٌ من السماء أم امتحانٌ من الأرض؟
المعلم : الحبّ يا أميرتي هو الاثنان معًا. هديةٌ لأنّه يُحيي القلب، وامتحانٌ لأنّه يختبر صدقنا. من ظنّ أنّ الحبّ راحةٌ دائمة لم يفهم سرّه؛ إنّه نارٌ تطهّر، كما أنّه ماءٌ يروي.
الأميرة : وأخبرني، لماذا يخاف الناس من الموت إن كان بابًا إلى الله؟
المعلم : لأنّ الناس يحبّون ما اعتادوا عليه. والإنسان لا يخاف الموت، بل يخاف أن يترك ما تعلّق به قلبه. من جعل قلبه لله، صار الموت عنده عودةً لا فناء.
الأميرة: وهل للحياة معنى واحد أم معانٍ كثيرة؟
المعلم : الحياة كالكتاب، تقرأه كل عينٍ بطريقةٍ مختلفة. مَن يبحث عن الحكمة يجدها، ومَن يبحث عن الله يلقاه. المعنى ليس سطرًا مكتوبًا، بل روحًا تُنقش في قلبك.
و هكذا مرّت الأيّامُ على الأميرة،
تمتلئ بالأسئلة التي تتدفّق من قلبها كجدولٍ لا ينضب،
وبالإجابات التي يسكبها المعلّم في روحها كندى الفجر على زهرٍ عطِش.
لم تعد ساعاتها مجرّد دورانٍ لعقارب القصر،
بل صارت رحلةً بين دهشةٍ وأخرى،
بين سؤالٍ يفتح نافذة،
وجوابٍ يُشعل مصباحًا في دهاليز عقلها.
وهكذا غدت حياتها،
أيّامًا من بحثٍ لا يتوقّف،
وعمرًا يزداد غنىً كلّما زاد فيه الحيرةُ واليقين معًا.
وكانت تلك هي بداية حكاية:
أميرةٍ تعلّمت أنّ العِلم لا يملأ العقل وحده،
بل يروي القلب أيضًا.
Comments