الفصل الخامس
استيقظت سلمى في صباح اليوم التالي، والشمس تتسلل عبر ستائر الغرفة الثقيلة، بينما جسدها ما زال مثقلاً بآثار الألم.
حاولت أن تتحرك ببطء، لكنها شعرت بوخز في كتفها المصاب.
فجأة فُتح الباب، ودخلت الممرضة حاملة صينية عليها الدواء.
قالت بابتسامة خفيفة: "صباح الخير آنسة سلمى، كيف تشعرين اليوم؟".
ترددت سلمى قليلاً قبل أن تجيب: "أفضل… على الأقل لست على الأرض هذه المرة".
ضحكت الممرضة بخفة، ثم وضعت الصينية على الطاولة الصغيرة بجانب السرير.
"السيد ياسين سيأتي لرؤيتك بعد قليل، يبدو أنه مهتم كثيراً بوضعك"، أضافت الممرضة.
اتسعت عينا سلمى بدهشة: "هو؟… لماذا يهتم أصلاً؟".
لم تُجب الممرضة مباشرة، بل اكتفت بابتسامة غامضة وغادرت الغرفة.
بقيت سلمى وحدها، تتأمل الجدران المزخرفة والزخارف الفاخرة التي لم تعتد عليها.
دخل ياسين بعد دقائق، بخطواته الواثقة ونظراته الحادة التي تعكس شخصية مسيطرة.
ارتدت سلمى نظرة متحفزة، كأنها تستعد لمواجهة عدو.
جلس على الكرسي المقابل وقال ببرود: "تبدين أفضل مما توقعت".
ردت بحدة: "لا أحتاج شفقَتك، أنقذتني؟ نعم، ولكنني لم أطلب منك شيئاً".
رفع حاجبيه بابتسامة ساخرة: "الشكر ليس من شيمك إذن".
تجاهلت سخريته وقالت: "كل ما أريده هو أن أخرج من هنا… أن أعود لحياتي".
ضحك ضحكة قصيرة خالية من الدفء: "وأي حياة تتحدثين عنها؟ العودة لعصابة قد تلاحقك ثانية؟".
تراجعت كلماتها إلى داخلها، فقد أصابها في نقطة ضعفها.
ساد الصمت للحظة، قبل أن يضيف بصوت منخفض: "أنتِ آمنة هنا… طالما أنكِ معي".
ارتعشت أنفاسها، فقد بدت كلماته أشبه بتهديد أكثر منها طمأنة.
التفتت نحوه بعينين متقدتين: "لا أريد أن أكون معك، لا أريد أن أُجبر على شيء".
اقترب بجسده للأمام، وقال بثقة: "أنتِ لا تدركين بعد… العالم الحقيقي لا يمنح الحرية لمن هم مثلك".
شهقت سلمى: "ولمن يمنحها إذن؟".
رد بهدوء قاتل: "لمن يعرف كيف يسيطر".
أدار وجهه عنها لبرهة، ثم وقف متجهاً نحو الباب.
"ارتاحي اليوم، غداً سنبدأ مرحلة جديدة"، قالها بنبرة آمرة.
حاولت أن تستوقفه: "ماذا تعني؟".
لكنه لم يلتفت وغادر الغرفة، تاركاً وراءه غموضاً يثقل قلبها.
ارتجفت أصابعها وهي تضم البطانية حول جسدها، شعرت أنها في فخ لم تختره.
لكنها، في أعماقها، أدركت أنه الوحيد القادر على حمايتها من العصابة.
في الخارج، كان ياسين يتحدث عبر الهاتف مع رجاله.
"راقبوا التحركات قرب الحي الصناعي، وصلني خبر أن العصابة لم تتوقف عن البحث عنها".
أجابه أحد رجاله: "تلقينا إشارات عن وجود نشاط غير معتاد هناك".
شدد قبضته وقال: "لا أريد أي خطأ، لا أحد يقترب منها".
أغلق الهاتف، وعيناه تحملان صراعاً داخلياً لا يعترف به.
تذكر ابتسامتها المرتبكة، وصوتها حين صاحت: "لا أريد أن أكون معك".
لأول مرة منذ سنوات، أحس بشيء يشبه الوخز في قلبه.
حاول أن يطرد ذلك الشعور لكنه فشل.
عاد إلى مكتبه الكبير، حيث تنتظره ملفات شركته وعالمه المليء بالسلطة.
جلس خلف المكتب، لكنه لم يستطع التركيز على الأوراق أمامه.
في تلك الأثناء، كانت سلمى تغالب دموعها وهي تنظر من النافذة.
رأت الحدائق الواسعة خارج القصر، الزهور المرتبة بعناية والأشجار العالية.
همست لنفسها: "هل أصبحت سجينة وسط هذا الجمال؟".
قلبها المرهق تمزق بين الامتنان لإنقاذ حياتها، والخوف من الرجل الذي يسيطر عليها.
حاولت أن تستجمع قوتها: "لن أسمح له بتغيير مساري".
كتبت في دفتر صغير وجدته على الطاولة: "يوماً ما سأهرب… يوماً ما سأحقق حلمي".
ضغطت على القلم حتى كادت الورقة تتمزق.
ارتجفت كتفها المصاب بالألم، لكنها تجاهلت وجعها.
فجأة سمعت طرقاً على الباب.
دخلت الممرضة من جديد، تحمل صينية أخرى هذه المرة مع طعام شهي.
"يبدو أنك لم تأكلي شيئاً منذ أمس، جربي هذا"، قالت الممرضة برفق.
نظرت سلمى للطعام، الشوربة الساخنة والخبز الطازج ورائحة التفاح المطهو.
ابتلعت ريقها، لكنها تذكرت أن شهيتها تُخونها حين تكون متوترة.
مع ذلك، جلست ببطء وأخذت الملعقة.
شعرت أن الممرضة تراقبها بعينين قلقتين.
"هل هو دائماً هكذا؟" سألت سلمى فجأة.
ترددت الممرضة قبل أن ترد: "السيد ياسين… رجل معقد. لا يثق بأحد بسهولة".
أضافت بصوت خافت: "لكن أحياناً… يظهر جانب آخر لا يراه الكثيرون".
حاولت سلمى أن تستفسر أكثر: "أي جانب؟".
ابتسمت الممرضة بخجل: "ستعرفين بنفسك".
شعرت سلمى بالارتباك أكثر، وأحست أن كل من في هذا المكان يخفي أسراراً.
تناولت بعض الطعام، لكن عقلها كان مشغولاً بما ينتظرها غداً.
غادرت الممرضة الغرفة، وبقيت هي وحيدة مع أفكارها.
أخذت تتقلب في السرير، عاجزة عن النوم.
ظل وجه ياسين يلاحقها، بعيونه القاسية وابتسامته المتعجرفة.
تذكرت كيف كان صوته حين قال: "طالما أنكِ معي".
شعرت بارتعاشة جديدة تجتاحها.
تساءلت: هل هو حقاً حاميها، أم سجّانها؟
ثم أغمضت عينيها في محاولة يائسة للهروب من تلك الأفكار.
الليل غطى المكان، لكن قلبها ظل مستيقظاً.
في مكان آخر، كان رجال العصابة يجتمعون في مخزن مهجور.
قال أحدهم: "لقد اختفت كلياً، لكننا نعلم أن أحداً أنقذها".
رد آخر: "سمعت أن ياسين نفسه هو من أخذها".
علا ضحك ساخر بينهم: "هذا الرجل المغرور؟ سيكون هدفاً سهلاً إن تدخل".
خططوا لتتبع تحركاته، متأكدين أن الفتاة ستقودهم إليه عاجلاً أم آجلاً.
رفع زعيم العصابة كأسه وقال: "لن نتركها تهرب بهذه السهولة".
الشر كان يملأ أعينهم، والعزم على الانتقام يزداد.
في تلك اللحظة، كان الخطر يقترب من سلمى دون أن تدري.
حتى وهي بين جدران القصر، لم تكن بأمان مطلق.
بدا أن اللعبة الحقيقية لم تبدأ بعد.
عاد ياسين لغرفته الخاصة في الطابق العلوي.
وقف أمام المرآة، يراقب انعكاس وجهه الجامد.
سأل نفسه: "لماذا هذه الفتاة تثير في داخلي ما لم يثره أحد؟".
قبض على يده بقوة، محاولاً إنكار ذلك الشعور.
لكنه فشل، فكل ما فعله هو أن تذكر نظرتها الخائفة.
زفر بعمق، ثم جلس على الأريكة الثقيلة قرب النافذة.
"يجب أن أركز… العصابة لن تتوقف"، قال لنفسه.
ومع ذلك، ظل قلبه يراوغ عقله.
شعر أنه يخوض معركة داخلية لم يعهدها من قبل.
كان يخشى أن يتحول ضعفه أمام سلمى إلى نقطة انهيار.
في اليوم التالي، كانت الشمس مشرقة والسماء صافية.
أيقظها صوت خطوات يقترب من باب غرفتها.
دخل ياسين بملابس رسمية، يبدو أكثر صرامة من الأمس.
"استعدي، لدينا الكثير لنفعله"، قال بلهجة لا تقبل النقاش.
ارتجفت سلمى: "ماذا تقصد؟".
ابتسم بخبث: "ستتعلمين كيف تكونين جزءاً من عالمي".
نظرت إليه باستغراب: "عالمك؟… لا أريد أن أكون جزءاً منه".
اقترب منها ببطء: "ليس لديكِ خيار آخر".
شعرت بقلبها يخفق بسرعة، وهي تحاول مقاومة تلك الهيمنة.
وهكذا، بدأ فصل جديد من معاناتها معه، حيث سيختبر كل منهما حدود الآخر.
12تم تحديث
Comments